متى امتنع عمر عن شرب النبيذ وهل كان ما يشربه من النوع المسكر؟

شارك الإجابة على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp

بسم الله الرحمن الرحيم

سلام عليكم

ورد في كتاب (دفاع عن السنة) أن عمر بن الخطاب بقي يشرب الخمر حتى نزل قول الله عز وجل (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) فقال عمر انتهينا انتهينا (ص 65) السؤال : هل لديكم تقدير لوقت نزول هذه الآية؟ وبالتالي متى توقف عمر عن شرب الخمر؟ فوقت نزولها إذن أراه مهماً في هذه القضية!

أريد بحثا مستندا رصينا ، لأحتج به على أهل سنة عمر لعنة الله عليه و عليهم، فهم يقولون أن النبيذ فيه المسكر و غير المسكر و الذي كان يستخدمه عمر لعنة الله عليه هو حسب إدعائهم من نوع الغير مسكر ؟ هل كلا النوعين حرام ؟


باسمه تقدست أسماؤه. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. عظم الله أجورنا وأجوركم بمصابنا بإمامنا الحسين الشهيد صلوات الله عليه، جعلنا الله وإياكم ممن يثأر له مع ولده الحجة المهدي أرواحنا فداه وعجل الله فرجه الشريف.

قد سبق أن أشرنا إلى هذه المسألة في بعض محاضراتنا، والكلام فيها يقع في ثلاث جهات:

الجهة الأولى؛ أن هذه الآية هي الآية 92 من سورة المائدة، وسورة المائدة هي آخر ما نزل من القرآن ترجيحا بقرينة آية إكمال الدين والولاية، حيث كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) راجعا من مكة إلى المدينة. وبقية الأقوال لا يعتد بها بعد وضوح هذه القرينة.

وقد نقل ابن كثير في تفسيره روايات عدّة في تأكيد أن المائدة آخر سورة نزلت من القرآن الحكيم، إذ نقل عن الترمذي والحاكم روايتهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: "آخر سورة أُنزلت المائدة والفتح"، كما نقل عن الحاكم روايته عن جبير بن نفير قال: "حججت فدخلت على عائشة فقالت لي: يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم. فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم من حرام فحرموه". وقد وصف الحاكم هذه الرواية أنها صحيحة على شرط الشيخين. (راجع تفسير ابن كثير ج2 ص3).

الجهة الثانية؛ أن الاتفاق هو على أن المائدة إنما نزلت بعد حجة الوداع، ولذا نقل ابن كثير في تفسيره عن رواية أحمد وابن مردويه أنها نزلت على رسول الله (صل الله عليه وآله) وهو راكب على الناقة "وكادت من ثقلها تدق عنق الناقة" (المصدر نفسه) وما بين حجة الوداع وبين استشهاد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) قرابة شهرين.

وحيث لا قائل بأن الآية 92 (أو 91 عندهم) قد نزلت منفصلة عن سورة المائدة؛ فيُعرف بأنها إنما كان وقت نزولها قبل شهرين تقريبا من استشهاد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

الجهة الثالثة؛ اتفاق روايات عدّة على أن هذه الآية إنما نزلت في ذم عمر بن الخطاب حين تعاطى الخمر وسكر وعنّفه رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعنيفا شديدا إلى درجة أنه ضربه بشيء كان في يده!

روى ذلك شهاب الدين الأبشيهي إذ قال: "قد أنزل الله تعالى في الخمر ثلاث آيات، الأولى قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ" (البقرة: 220) فكان من المسلمين من شارب ومن تارك إلى أن شرب رجل فدخل في الصلاة فهجر. فنزل قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ" (النساء: 44) فشربها من شربها من المسلمين وتركها من تركها، حتى شربها عمر رضي الله عنه فأخذ بلحى بعبير وشجّ به رأس عبد الرحمن بن عوف1 ثم قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يعفر يقول:

وكائن بالقليب قليب بدر من الفتيان والعرب الكرام

أيوعدني ابن كبشة أن سنحيا وكيف حياة أصداء وهام؟!

أيعجز أن يردّ الموت عني وينشرني إذا بليت عظامي؟!

ألا من بلغ الرحمن عني بأني تارك شهر الصيام!

فقل لله يمنعني شرابي وقل لله يمنعني طعامي!

فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج مغضبا يجر رداءه، فرفع شيئا كان في يده فضربه به، فقال: أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله! فأنزل الله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ؟ (المائدة: 92) فقال عمر: انتهينا.. انتهينا"! (المستطرف لشهاب الدين الأبشيهي ج2 ص291 ونقل عنه الزمخشري في ربيع الأبرار).

وكان عمر أثناء نزول الآيات السابقة يحاول أن يتملص من دلالتها التحريمية رغبة في البقاء على تعاطي الخمر! فقد روى الحاكم عن أبي ميسرة قال: "لما نزلت تحريم الخمر قال عمر رضي الله عنه: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً! فنزلت: يسألونك عن الخمر والميسر التي في سورة البقرة فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً! فنزلت التي في المائدة فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ فهل أنتم منتهون قال عمر: انتهينا انتهينا"! (مستدرك الحاكم ج2 ص278)

فلاحظ في الرواية قول أبي ميسرة: "لما نزلت تحريم الخمر" أي آية تحريم الخمر. ومعنى هذا أن المسلمين فهموا من الآية أنها تحرّم الخمر بدلالتها الطبيعية، إلا أن عمر يصرّ على أنها قاصرة عن ذلك، إلى أن نزلت الآيات الأخرى! وهذا يكشف عن حب عمر وعشقه للخمر وإصراره على شربه!

وقد روى نظائر هذه الرواية كل من الترمذي في سننه ج4 ص319 والبيهقي في سننه ج4 ص143 وأحمد في مسنده ج1 ص53 وغيرهم كثير.

وعندما صدر التحريم الأكيد من لدن المولى عز وجل في الآية الأخيرة؛ امتعض عمر امتعاضا شديدا عبّر عنه بأن الخمر قد ضاعت من يده بعد اليوم حين قرنها الله تعالى بالميسر! إذ روى السيوطي عن ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: "لما نزلت يسئلونك عن الخمر والميسر الآية؛ كرهها قوم لقوله فيهما إثم كبير وشربها قوم لقوله ومنافع للناس حتى نزلت يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فكانوا يدعونها في حين الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة حتى نزلت إنما الخمر والميسر الآية، فقال عمر: ضيعةٌ لك اليوم! قُرنت بالميسر"! (الدر المنثور ج2 ص317).

وحيث قد عرفت هذه الجهات الثلاث، فيثبت عندك أن عمر بن الخطاب استمرّ في شرب الخمر في الجاهلية وفي الإسلام حتى شهرين قبل استشهاد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. هذا على أقل تقدير، لأنه لم يعبّر عن انتهائه شربها إلا حين نزلت الآية الأخيرة في المائدة، وهي آخر سورة نزلت من القرآن الحكيم قبل شهرين من الاستشهاد النبوي.

وقد استمر عمر في شرب الخمر تحت عنوان النبيذ، وقد استفاضت الروايات عند المخالفين في ذلك، فمنها ما رواه المتقي الهندي عن أنس قال: "كان أحب الطعام إلى عمر الثفل وأحب الشراب إليه النبيذ"! (كنز العمال ج12 ص626).

بل إن عمر كان مغرما حتى الثمالة بالنبيذ، فقد رُوي أنه قد أُتي بنبيذ الزبيب، فدعا بماء وصبّه عليه، ثم شرب! وقال: "إن لنبيذ الطائف غراما"! (المبسوط ج24 ص8).

وكان تبرير عمر من شربه للنبيذ هو أنه يساعده على هضم لحوم الإبل! فقد روى البيهقي عن عمرو بن ميمون: "قال عمر رضي الله عنه: إنا لنشرب من النبيذ نبيذا يقطع لحوم الإبل في بطوننا من أن تؤذينا"! (سنن البيهقي ج8 ص299).

وقد استمر غرام عمر بالخمر والنبيذ حتى آخر لحظات حياته، أي حينما كان ينازع الموت بعد الطعنة المباركة، فقد روى الخطيب عن عمرو بن ميمون قال: "شهدت عمر حين طُعن أُتي بنبيذ شديد فشربه"! (تاريخ بغداد ج6 ص154).

ولاحظ هنا أن ابن ميمون وصف النبيذ بأنه "شديد" أي ليس خفيفا لا يُسكر! وثمة رواية أخرى يرويها البيهقي عنه، وفيها: "فحُمل عمر إلى منزله فأتاه الطبيب فقال: أي الشراب أحب اليك؟ فقال: النبيذ! فدعى بالنبيذ فشرب منه فخرج من إحدى طعناته"! (سنن البيهقي ج3 ص113).

وبطبيعة الحال فقد اضطر فقهاء المخالفين إلى ابتداع حكم يوافق سنة عمر ويخالف سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو أن النبيذ يمكن شربه إلى حد لا يسكر المرء فيه، فإن سكر فإنه يحرم عليه!

قال الشافعي: "قال بعض الناس الخمر حرام والسكر من كل الشراب ولا يحرم المسكر حتى يسكر منه ولا يحد من شرب نبيذاً مسكراً حتى يسكره. فقيل لبعض من قال هذا القول: كيف خالفت ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عن عمر وروي عن علي ولم يقل أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافه؟ قال: روينا فيه عن عمر أنه شرب فضل شراب رجل حده. قلنا: رويتموه عن رجل مجهول عندكم لا تكون روايته حجة. قال: وكيف يعرف المسكر؟ قلنا: لا نحد أحدا أبدا لم يسكر حتى يقول شربت الخمر أو يشهد به عليه أو يقول شربت ما يسكر أو يشرب من إناء هو ونفر فيسكر بعضهم فيدل ذلك على أن الشراب مسكر، فأما إذا غاب معناه فلا يضرب فيه حدا ولا تعزيرا لأنه إما الحد وإما أن يكون مباحا وإما أن يكون مغيب المعنى، ومغيب المعنى لا يحد فيه أحد ولا يعاقب، إنما يعاقب الناس على اليقين"! (كتاب الأم للشافعي ج6 ص156)

ولا يخفى أن هذا الحكم يخالف قاعدة أن كل مسكر حرام وأن ما كثيره مسكر فقليله حرام، ومعناه أيضا فتح الباب على مصراعيه لكل نهم إلى السكر، فيشرب من النبيذ مقدارا بدعوى أنه لا يسكره!

وأما الرواية التي أشار إليها الشافعي فهي تلك الرواية التي تفضح عمر فضيحة ليس بعدها فضيحة! وحاصلها أن عمر كانت لديه قربة فيها نبيذ، فشرب منه رجل فأقام عليه عمر الحد! فاعترض الرجل قائلا: "إنما شربت من قربتك"! فقال له عمر: "إنما جلدتك لسكرك لا على شرابك"! (العقد الفريد ج1 ص341).

وبهذا اعتبر عمر وتبعه فقهاؤه أنه لا إشكال ولا شبهة في شرب النبيذ ما لم يُسكر!

أما عندنا نحن أتباع النبي الأكرم وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) فالنبيذ كالخمر، حرام ونجس، لأن النبيذ إنما هو نوع من أنواع الخمر يؤخذ من فاكهة أخرى غير العنب كالزبيب والتمر والشعير، وإنما سُمي نبيذا لأن الفاكهة تُنبذ حتى تختمر وتغلي وتسكر. ودعوى المخالفين بأن هناك نبيذا غير مسكر دعوى بلا دليل، فإن العرب إنما تطلق هذا اللفظ على المسكر فحسب كما ذكره أهل المعاجم، وأما غيره - كماء الشعير - فلا يطلقون عليه لفظ النبيذ، بل يلطقون عليه لفظ ماء الشعير، فيكون اسما مضافا لا اسما مفردا.

قال ابن منظور في لسان العرب: "النبيذ معروف، واحد الأنبذة. وحكى اللحياني: نبذ تمرا جعله نبيذا، وحكى أيضا: أنبذ فلان تمرا. قال: وهي قليلة وإنما سمي نبيذا لأن الذي يتخذه يأخذ تمرا أو زبيبا فينبذه في وعاء أو سقاء عليه الماء ويتركه حتى يفور فيصير مسكرا". (لسان العرب ج3 ص511).

وفقكم الله لجوامع الخير في الدارين. والسلام.

السابع عشر من شهر محرم الحرام لسنة 1428 من الهجرة النبوية الشريفة.


شارك الإجابة على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp