هل كان النبي صلى الله عليه وآله يعذّب مخالفيه؟

شارك الإجابة على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp

السلام عليكم شيخنا، ان شاء الله انت بخير. في الماضي كنت اشاهد احد من محاضراتك و ذكرتَ الروايات عن أنس بن مالك (لعنة الله عليه) التي تقول انّ 'النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلاَفٍ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ...'. دائما يظهر النصارى والكفار هذه الاحاديث لانهم يريدون ان يظهروا الى العالم، ان النبي كان معذبا آعوذ بالله.
انا وجدت حديثا في الكافي و ذُكِرَ قصة مشابهة. مثلا هذا الحديث لم تذكرْ أنَّ النبي وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ ولكن الحديث من كتاب الكافي تقول 'فاختار رسول القطع فقطع ايديهم و ارجلهمم من خلاف' هل تقبل هذا الحديث شيخنا؟ لان البكرية لعلهم سيقولون كيف انتم تريدون ان تستخدموا الاحاديث من كتبنا و انتم عندكم انّ النبي كان يقطع اليدين والقدمين؟ و الكفار و النصارى ربما سيقولون: "كيف نبيكم، نبي الرحمة و هو كان يقطع اليدين والقدمين؟! أليس هذا الحد مثل تعذيب؟!"

انا درست عن الحدود في الاسلام شيخنا و لكن اريد ان اجد افضل جواب للبحث مع غير المسلمين لأن هذه الروايات هي الآن في اللغة الانجليزية و يقرأ و يستخدم الكفار ضدنا.

بارك الله فيكم


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بمراجعة الشيخ؛

إن هنالك فرقا بين (التعذيب) و(الحد)، والمنفي عندنا هو الأول، لا الثاني. ولذلك نقول أن النبي صلى الله عليه وآله لم يسمل الأعين لأنه ضرب من التعذيب غير المبرر. أما قطع الأيدي والأرجل فهو - إن صحّ - حد مذكور في كتاب الله تعالى، والغرض من الحدود هو الردع. والخطأ الذي يقع فيه بعض الناس هو عدم الالتفات إلى هذه النقطة، وهي نسبية الردع تبعا لحالات الناس ومجتمعاتهم وأزمنتهم، فما قد يكون رادعا عند قوم قد لا يكون رادعا عند آخرين، وما قد يكون رادعا في زمان قد لا يكون رادعا في زمان آخر، وهكذا.

في مجتمع آمن وبسيط كجزيرة من الجزر الهادئة قد تكون الغرامة المالية تكفي للردع عن ارتكاب واستمرار الجرائم، أما في مجتمع معقد يعيش فوضى أمنية وتنتشر فيه الجرائم فإن مثل هذه العقوبة لا تكفي بل لا بد من تشديدها ليتحقق الردع. وهكذا قد لا يكون من الضروري تنفيذ عقوبة الإعدام في بلد كآيسلندا مثلا لندرة جرائم القتل والاغتيال فيه، أما في بلد كالصومال فإن من الغباء تصوّر إمكان إيقاف الجرائم هناك بغير عقوبة رادعة كالإعدام.

وأحيانا يكون الإعدام بحد ذاته غير رادع، فاليوم نحن نرى أن هذه العقوبة لا تكفي لردع الهمجيين من الانضمام إلى داعش لأنهم قد وطّنوا أنفسهم على الانتحار، فلا يرون بأسا في أن يُقتَلوا على كل حال سواء بطلقة على الرأس أو بشنق أو بصعق كهربائي. ولذلك لا بد من التفكير بنوعية الإعدام حتى يكون رادعا. ويمكن هنا أن تُطرح عقوبة الإعدام بقطع الأيدي والأرجل (أي حد الحرابة) حتى يرتدع الهمجيون ولا ينضمون لداعش.

عموما؛ إن العجز عن تحقيق الردع المناسب عن الجرائم الكبرى والخطيرة هو (ضد الإنسانية) خاصة إذا تحوّلت تلك الجرائم إلى مسلسل مستمر وظاهرة إرهابية شاملة، والمسؤولية تفرض هنا تشديد العقوبات الرادعة. ولو افترضنا أنه بتطبيق (حد الحرابة) سننقذ أرواح ألوف الأبرياء ونجنّبهم الآلام مقابل أن نؤلم بضع أشخاص من المذنبين أصلا؛ فإن العقل يقول بحسن ذلك وأنه عين الإنسانية. وإلا فهل الإنسانية تكون في العجز عن ردع الإرهابيين والمجرمين بحجة أننا لا نريد إيلامهم؟! وهل الإنسانية تعني السماح باستمرار عذابات آلاف الأبرياء بحجة أننا لا نريد للإرهابيين أن يتعذّبوا؟!
لقد عاش النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في بيئة اجتماعية يسودها الإرهاب والإجرام وانعدام القانون والفوضى الأمنية، ولقد بذل كل ما في وسعه لأجل تحويلها إلى بيئة آمنة يسودها السلام ويضبطها القانون. ما كان يمكن تحقيق هذا الهدف بغير تشديد في العقوبات، ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وآله لطالما أصدر عفوه عن المجرمين لكن في إطار الحكمة، كأن يرتدعوا نفسيا إثر ذلك عن مواصلة جرائمهم ولو لفترة.
حادثة قتل العرنيين - إن صحّت - هي من قبيل تطبيق الحد اللازم، أي الرادع الذي لا بد منه. فالمروي أنهم قتلوا أبرياء من المسلمين غدرا، وهنالك روايات تقول أنهم قاموا بتعذيب الراعي المسلم بنفس الطريقة؛ أي قطع يديه ورجليه. وكانت هذه منتهى النذالة من هؤلاء المجرمين، أن يكافئوا الذين أحسنوا إليهم بمثل هذه الإساءة، وأن يعضوا اليد التي امتدت إليهم بالإحسان.

عقوبات من قبيل قطع الأيدي والأرجل (أي حد الحرابة) في مثل ذلك الزمان كانت ضرورية لتوافقها مع تحديات المجتمع والبيئة التي يعيش فيها، خاصة إذا كانت من قبيل القصاص. أما سمل الأعين فإنه حتى بالقياس إلى ما كانت عليه تلك البيئة؛ لا يمكن اعتباره سوى نوع من التعذيب غير المبرر، أو السادية. فكأن النبي صلى الله عليه وآله هنا لم يكن يريد تحقيق هدف (الردع) بل (الالتذاذ بالتعذيب) حاشاه؛ ولذلك فإن أئمتنا عليهم السلام نفوا ذلك عنه ونزّهوا طُهره منه.

نقول كل هذا الكلام على فرض صدق الرواية عندنا في هذا الشأن، وإلا فإن للمناقشة في كونها من رواياتنا متسع، إذ هي بالأصل منقولة من كتاب أبان بن عثمان في المغازي، وفيه ما يرويه عن أبي صالح عن ابن عباس كما فيه ما يرويه عن أبي صالح عن أبي عبد الله عليه السلام. ولو أننا رجعنا إلى مصادر العدو لوجدنا هذه الرواية تُنقل عن ابن عباس كما في نيل الأوطار للشوكاني ج7 ص197، فالمظنون وقوع خلط في أسناد الروايات في كتاب أبان، والاشتباه بين أبي صالح باذان الذي يروي عن ابن عباس؛ وأبي صالح عجلان الذي يروي عن الصادق عليه السلام. وأمثال ذلك في الكتب القديمة كثير كما لا يخفى.

ومثل هذه الرواية المشتركة مع العامة ومدارها على أنس بن مالك لا تقاوم الرواية الخاصية التي رواها الصدوق بسنده عن الباقر عليه السلام وفيها تكذيب أنس ونفي استحلال النبي صلى الله عليه وآله للعذاب والتعذيب. فإن كان المقصود بهذه الرواية الخاصية حادثة العرنيين أو بني ضبة المذكورين؛ فالنفي مستحكم.

وفقكم الله لمراضيه

مكتب الشيخ الحبيب في لندن

26 ربيع الأول 1438 هجرية


شارك الإجابة على Google Twitter Facebook Whatsapp Whatsapp