• قد يقول قائل كيف لنا أن نصل إلى ما كان عليه أمير المؤمنين عليه السلام وهو معصوم؟ وأنى لنا أن نجمع بين هذه الخصال والصفات المتضادة؟ وأنى لنا أن نفرط أو لا نفرّط؟
• الجواب أنه لا ريب أن لا أحدا منا يمكن أن يصل إلى مقام المعصوم، ولكن له أن يتخذ المعصوم أسوة فيقترب ما أمكن من أخلاقه وصفاته، وهذا هو جهاد النفس والمطلوب منا. لا يكون هذا الإيمان لليأس والقعود بالقول أن أولئك معصومين وما أشبه.
• شواهد الأثر والتأريخ تثبت أن هنالك من الناس من استطاعوا أن يقتربوا من بعض أخلاق المعصوم وسجاياه وصفاته، وفيما نحن فيه الآن -وهو ضرورة الجمع بين اللين والشدة وما اشبه-، هنالك نماذج من أوائلنا الأماجد نجحوا في هذا المضمار ومشرفة.
• من تلك النماذج سيدنا مالك الأشتر رضوان الله تعالى عليه، وقد كان رجلا حربيا بامتياز، وقد وصفه أمير المؤمنين عليه السلام بوصف هو في القمة قال: "كان لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله" وهذه كلمة تهز الوجدان.
• وهناك كلمة أخرى له عليه السلام حين ذكر مالكا في كتاب له إلى أميرين من أمراء جيشه مروي في نهج البلاغة "وقد أمرتكم عليكما وعلى من في حيزكما مالك بن الحارث الأشتر فاسمعا له وأطيعا واجعلاه درعا ومجنّا فإنه ممن لا يخاف وهنه ولا سقطته ولا بطؤه عما الإسراع إليه أحزم، ولا إسراعه إلى ما البطؤ عنه أمثل.
• كان مالك الأشتر أشهر الفرسان والمقاتلين بعد أمير المؤمنين عليه السلام. كان قوة حربية عسكرية هائلة! كان اسم مالك مرعبا، وهو أحد الذين ثاروا على الطاغية الثالث عثمان بن عفان، وسيطه كان يرهب القلوب.
• ورغم كونه رجل غير معصوم، إلا أنه كان منضبطا في انفعالاته كما وصفه الإمام عليه السلام، ومع كونه ذا خشونة في الحرب إلا أنه كان ذا عطف ورقة مع غير المعتدين والمحاربين وإن اعتدوا عليه شخصيا.
• قال ابن أبي الحديد: فأما ثناء أمير المؤمنين عليه السلام عليه في هذا الفصل فقد بلغ مع اختصاره ما لا يبلغ بالكلام الطويل، ولعمري لقد كان الأشتر أهلا لذلك، كان شديد البأس جوادا، رئيسا حليما، فصيحا شاعرا، وكان يجمع بين اللين والعنف، فيسطو في موضع السطوة، ويرفق في موضع الرفق.
• هذه الحروب يجب أن تكون لها ضوابط وآداب، وألسنتنا علينا أن نضبطها ولا نطلقها على من لا يستحق منا هذا الإطلاق، كما لا نبلعها على من يستحق منا إطلاق ألسنتنا عليه، فلا إفراط ولا تفريط.
• إن كل دارسٍ لما جاءنا من تراث حملتها هذه الأحاديث فإنه تلفته هذه الظاهرة؛ وهو وجود التخالف والتعارض. ولذا لدينا في أصول الفقه باب كامل بعنوان باب التعارض والترجيح، وقد أفرد هذا الباب لأن الفقهاء لاحظوا أن فيما بين الآثار والأدلة الشرعية تعارض فيبحث فيه عما تعارض وما يرجح.