كان الكلام في الدرسين الماضيين في مثال ضربناه للتأكيد على أهمية فهم أخبار الأئمة الأطهار عليهم السلام ولحن كلامهم، وقد تعلق المثال بمسألة فقهية مبحوثة بين الفقهاء وهي أن إذا مات ميت لم يحج فالواجب أن يُخرج من ماله مقدار ما يستناب به نائب يحج عنه، فوقع البحث بين الفقهاء في أن الواجب الحج البلدي أم الحج الميقاتي؟!
- ذكر الشهيد الأول في اللمعة الدمشقية: “ومن مات بعد الإحرام ودخول الحرم أجزأ، ولو مات قبل ذلك وكان قد استقر في ذمته؛ قُضي عنه من بلده في ظاهر الرواية”. فالشهيد الأول يرى الحج البلدي أيضا.
- وقال الشهيد الثاني في الروضة البهية: لأن ذلك ظاهر أربع روايات في الكافي، أظهرها دلالةً رواية أحمد بن أبي نصر عن محمد بن عبد الله قال: “سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الرجل يموت فيوصي بالحج من أين يُحج عنه؟ قال عليه السلام: على قدر ماله إن وسعه ماله فمن منزله، وإن لم يسعه ماله من منزله فمن الكوفة، فإن لم يسعه من الكوفة فمن المدينة”.
وإنما جعله ظاهر الرواية لإمكان أن يراد بماله ما عيَّنه أجرةً للحج بالوصية، فإنه يتعين الوفاء به مع خروج ما زاد عن أجرته من الميقات من الثلث إجماعًا وإنما الخلاف فيما لو أطلق الوصية أو عُلِمَ أن عليه حجة الإسلام ولم يوص بها. ومن أعجب العجب هنا أن ابن إدريس ادعى تواتر الأخبار بوجوبه من عين البلد وردَّه في “المختلف”: بأنا لم نقف على خبرٍ واحد فضلًا عن التواتر. وهنا جعله ظاهر الرواية، والموجود منها أربع، فتأمل. (انتهى)
- الشيخ الحبيب: يرى أن الوصية المطلقة آنذاك -في تلك العهود- كانت تنصرف إلى الحج البلدي ارتكازًا عرفيا، فلو أوصى الموصي بإطلاقٍ وقال (أوصيت بألف دينار للحج) أو أنه أطلق الوصية؛ فالواجب إخراج هذا المقدار من لثلث تركته، فيخرج ما مقدراه يكفي للحج البلدي ولا يقتصر على ما يكفي للحج الميقاتي.
على أن هنالك ما يعارض هذه الأخبار في الرجل الموصي بالحج، في إيجاب الحج من البلد كخبر زكريا بن آدم عن رجل مات وأوصى بحجةٍ أيجوز أن يُحج عنه في غير البلد الذي مات فيه؟ فقال عليه السلام: أما ما كان دون الميقات فلا بأس.
- إن التفاوت ها هنا راجع إلى فهم روايات الأئمة عليهم السلام، فتأمل.
- الفتوى اليوم:
جاء في العروة الوثقى: هل الواجب الاستيجار عن الميت من الميقات أو البلد؟
الجواب: المشهور وجوبه من أقرب المواقيت إلى مكة إن أمكن وإلا فمن الأقرب إليه فالأقرب. وذهب جماعة إلى وجوبه من البلد مع سعة المال، وإلا فمن الأقرب إليه فالأقرب، وربما يُحتمل قولٌ ثالث وهو الوجوب من البلد مع سعة المال، وإلا فمن الميقات. وإن أمكن من الأقرب إلى البلد فالأقرب. والأقوى هو القول الأول (الحج الميقاتي). وإن كان الأحوط القول الثاني (الحج البلدي)، لكن لا يُحسب الزائد عن أجرة الميقاتية على الصغار من الورثة.
ولو أوصى بالاستيجار من البلد وجب، ويُحسب الزائد عن أجرة الميقاتية من الثلث، ولو أوصى ولم يعين شيئًا كفت الميقاتية، إلا إذا كان هناك انصرافٌ إلى البلدية أو كانت قرينةٌ على إرادتها، كما إذا عيَّن مقدارًا يناسب البلدية. (انتهى)
- من هذا المثال -في مسألة الحج- والتي اختلفت فيها أقوال العلماء وفتاواهم -كما تقدم- لابد علينا من ملاحظة هذه النقاط:
أولا: فهم الروايات حتى يستنبط منها الحكم والمعاني.
ثانيا: عدم التسرع في النفي أو الإثبات.
ثالثا: عدم التسرع في الأخذ بكلام فقيه من فقهائنا خبير، وعدم التعويل بقوله بالمطلق والكلية، بل لابد من مؤنة التدقيق والبحث، فلعل هذا النفي والإثبات راجعٌ إلى اختلاف الفهم، لا راجع إلى الوجود وعدم الوجود بالضرورة.
- مثال آخر على الحاجة الماسة لتذوّق لحن كلام الأئمة عليهم السلام:
روى الكليني في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله إلى المدينة فقال: لا تدع صورةً إلا محوتَها، ولا قبرًا إلا سوَّيته، ولا كلبًا إلا قتلته.
- إشكال في الإطلاق: إذ لا يتصور أن يأمر النبي صلى الله عليه وآله بقتل كل كلبٍ حتى الذي يُنتفع به ككلب الصيد والماشية والزرع والبستان ونحو ذلك، مع ترخيصه صلى الله عليه وآله في اقتنائها، ومع ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام من قوله (لا خير في الكلاب إلا كلب صيدٍ أو كلبَ ماشية) -الكافي-.
- حمل الحر العاملي هذا الحديث على قتل كلب الهراش (المسعور) فجعله في الوسائل في باب جواز قتل كلاب الهراش (ما لا يُنتفع به).
- الشيخ الأعظم في المكاسب قال في معرض بحث جواز اقتناء ما حرم عمله من الصور وعدمه:
ويمكن أن يُستدل للحرمة (..) بالنبوي “لا تدع صور إلا محوتها ولا كلبا إلا قتلته..” بناءً على إرادة الكلب الهراش المؤذي الذي يُحرم اقتناؤه، وأما النبوي فسياقه ظاهرٌ في الكراهة كما يدل عليه عموم الأمر بقتل الكلاب.
- فإذن حمل العلماء والفقهاء كالحر العاملي ونظراؤه هذا الحديث على الكلب الهراش -المؤذي-، ولكن هل هذا الكلام تام أم فيه نظرا؟ هذا ما سيتم بحثه في الدرس المقبل -الرابع-.
* الآراء والنتائج التي يُنتهى إليها في هذا الدرس هي في مقام البحث العلمي فقط ولا يجوز العمل بها إن لم تطابق فتوى المرجع.