عرفنا في الدرس السابق أن هناك ست نظريات في فهم خبر أمير المؤمنين عليه السلام الذي فيه (من جدَّد قبرا) وقد أوجب هذا التردد فهما ومعنىً، فأي هذه المعاني نفتي به؟
- أولًا: نحن لا ننكر وجود روايات تنهى عن تسنيم القبور وكذا عن اتخاذ التماثيل ولذا لا نرفع إمكان عطف هذه الرواية ومعناها على تلكم الروايات ومعناها.. ولكن الذي يجعلنا نستبعد هذا هو أن المسألة تسنيم القبور مسألةٌ فرعية أقصى ما فيها الكراهة، فكيف صار ارتكاب المكروه خروجًا من الإسلام؟
- إذا حملنا قوله (مثًّل مثالًا) على نصب صنمًا أو صنمًا بشريًا كان الحكم مستوعبا -أي خرج من الإسلام-، أما إذا حملناه على معنى صنع الأصنام دون قصد العبادة فأقصى ما يقال أنه حكمه الكراهة..
- الجواب عن هذا السؤال طرحه الشهيد الأول في (الذكرى): "وأما الخروج عن الإسلام بهذين فإما على طريقة المبالغة زجرًا عن الاقتحام على ذلك وإما لأنه فعل ذلك مخالفةً للإمام عليه السلام".
- الشيخ الحبيب: في رأينا يمكن الإلتفات إلى هذا الجواب وإن شابه بعض الضعف.
أما قولنا يمكن الإلتفات إليه؛ فذلك لما ثبت من أنهم عليهم السلام كثيرًا ما يبالغون في الزجر عن المكروهات بما يكاد يلحقها بالمحرمات، وكثيرًا ما يحثون على المستحبات بما يكاد يدخلها أو يلحقها في الواجبات، كما قاله صاحب الحدائق رحمه الله. كقولهم عليهم السلام (ملعون من بات وحده).
- ولكن مع هذا نقول أنه يشوبه ضعف -أي جواب الشهيد الأول-، والسر في ذلك أنه مهما تعددت المعاني فلابد أن يكون ثمة تناسب بين الأمرين أو الجزئين من حيث كونهما على نقيض الإسلام.
فقوله عليه السلام (مثَّل مثالًا) فبإعمال العطف عيَّنا أن معناه (نصب دينا) وهذا خروج من الإسلام معقول.
أما إذا قلنا (جدد، حدد، جدث قبرا) هو على هذا الوزان مع كونه ليس بخطورة الابتداع في الدين فهنا لا يكون ثمة تناسب بين الجزئين، فأي تناسب لهذا مع ذاك ليوجب على فاعله هذا الحكم؟
فإننا إن تجاوزنا بعد الكراهة وأوصلناه إلى الحرمة فلا يعدو ارتكاب حرامٍ في فرع من الفروع من غير مسٍ بالعقيدة وأصول الدين، فلابد إذن من أن يكون تجديد القبر أو تحديده أو ما إلى ذلك كله يصب في مصب ما كان يفعله المشركون من تعلية قبور أوليائهم إعلاءً لشركهم، فيحمل الحديث بمعناه على ما يفعله المخالفون والمغالون والمنحرفون في تعلية قبور أوليائهم إعلاءً لمخالفتهم ومضادتهم لأئمة الهدى عليه السلام.
ملاحظة: جاء الترخيص في تعلية قبور الأئمة عليهم السلام، فعن الإمام الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لعلي عليه السلام: “يا أبا الحسن إن الله جعل قبرك وقبور ولدك بقاعا من بقاع الجنة وعرصةً من عرصاتها وإن الله تعالى جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عباده تحن إليكم وتحتمل المذلة والأذى فيعمرون قبوركم ويكثرون زيارتها تقربا منهم إلى الله ومودة منهم لرسوله، أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي الواردون حوضي وهم زواري غدا في الجنة. يا علي من عمر قبوركم وتعاهدها فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس..” (التهذيب)
- فالحاصل أنما يكون خروجًا من الإسلام -في الرواية- على نحوٍ يجعله قبرًا شعائريا يتعاهد بالتجديد أو التحديد أو ما إلى ذلك شريطة ألا يكون القبر مما أذن بتعميره، بل يكون شعارًا لمضادة أئمة الهدى عليهم السلام أو مزاحمتهم، فتأمل!
- تفريعٌ قد يُعد تأييدا لما تقدم:
قد ذهبنا إلى أن ما يترتب عليه الخروج من الإسلام هو تجديد أو تعمير القبر الشعائري مضادة لأئمة الهدى عليهم السلام أو مخالفة لهم أو مزاحمة لهم كتعمير قبور أئمة المذاهب المبتدعة، وذهبنا لى أن (من مثَّل مثالًا) هو من ابتدع دينًا كنايةً على ما يفعله المشركون من تمثيل التماثيل .. ماذا لو قلنا بأن قوله عليه السلام (من مثَّل مثالًا) يشتمل على المعنى الأخف وهو هذا التصوير والتشكيل المادي، فكيف يمكن تصوّر هذا خروجًا من الإسلام أيضا؟!
- الجواب: إن هذا التصور ممكنٌ أيضًا إذا ما عددنا هذا التمثيل أو التصوير أو التشكيل لرمزٍ أو شخصيةٍ مضادةٍ كذلك، أما إذا لم تكن الشخصية أو الرمز مضادًا فلا خروج من الإسلام ولا حرمة.
ولعل مما يؤيد ذلك أو يستأنس به ما ورد في بعض الآثار من أن النبي صلى الله عليه وآله لما دخل مكة فاتحا أمر بطمس جميع الصور التي كانت في الكعبة المشرفة وكسر التماثيل إلا ما كان من صورة المسيح وأمه عليهما السلام، فقد روى الأزرقي في أخبار مكة أن النبي صلى الله عليه وآله أمر يوم الفتح بمحو كل صورة في الكعبة بما فيها صورة إبراهيم عليه السلام إذ جعلوه -والعياذ بالله- يستقسم بالأزلام فيما وضع صلى الله عليه وآله فيما وضع كفّيه على صورة عيسى وأمّه عليهما السلام وقال: امحوا الجميع إلاّ ما تحت يدي. (وبنحوه رواه الواقدي في المغازي)
- وقد نقل ابن حجر في فتح الباري عن عمر بن شبة عن عطاء بن أبي رباع وعمرو بن دينار أنهما أدركا هاتين الصورتين في الكعبة قبل أن تحترقا معها في حادثة هجوم الحجاج على ابن الزبير لعنهما الله.
- فائدة:
إن كان التمثيل والتصوير لمن كان من الأنبياء أو الأولياء عليهم السلام فالشارع رخَّص ذلك شريطة أن لا يكون في هذا التمثيل أو التصوير هتكٌ كما فعله المشركون في تصوير إبراهيم عليه السلام.
أما إن كان التمثيل أو التصوير لرمز كفرٍ أو ضلالةٍ أو فيه هتكٌ أو مضادة لأئمة الهدى عليهم السلام فالحرمة باقية وهي على حد الخروج من الإسلام وكل ذلك لأن مصب هذا الفعل هو تدعيم وتمتين الديانة الكفرية أو البدعية. هذا ما قاد إليه النظر، والله العالم.
* الآراء والنتائج التي يُنتهى إليها في هذا الدرس هي في مقام البحث العلمي فقط ولا يجوز العمل بها إن لم تطابق فتوى المرجع.