5 محرم الحرام 1442
لكثرة ما نراه في كل عام من هجمات سامرية وبترية ضد عشاق الحسين "عليه السلام"، نعم .. نقولها بكل حسرة وألم أن الخدمة الحسينية بحاجة إلى عشرات الألوف من أمثال "زيد المجنون".
ومع إقرارنا بأن أمثال (زيد المجنون) متواجدون بيننا على قلة عددهم، كانوا ولا زالوا بفضل الله تعالى وبركات محمد وآله "عليهم السلام"، إلا أننا نطمح بالمزيد، وأردنا في هذا المقام أن نبين حال هذا العاشق المجنون في حب الإمام الحسين "عليه السلام" الذي مع شديد الأسف لا يذكر على المنابر إلا القليل.
إنه الموالي المخلص لسيد الشهداء "عليه السلام" أحد رافضة مصر الكنانة، ذو العقل الراجح والبأس الشديد، الشجاع الذي طالما أفحم الأعداء وأخرسهم في مناظراته، واهتدى على يديه الكثير، وقد نصر أبا الأحرار "عليه السلام" وضحى بنفسه من أجل إعمار قبره الشريف وحماية زواره، وذلك في زمان الدولة العباسية المبغضة لآل محمد الطاهرين، بقيادة الرجس المتوكل "لعنه الله"!
ولو كان بيننا في هذا الزمان لشنت عليه الحروب الرعناء والتسقيط من قبل رموز النفاق وصبيانهم، كما يفعلون اليوم مع المؤمنين الرافضة.
ولذا ننقل لكم الشاهد والمضمون في قصة هذا المجنون العاشق الحسيني، لتكون سدا منيعا ضد كل أعور دجال يحاول تسقيط عشاق الحسين برمي الشبهات وخداع البسطاء من عوام المؤمنين.
روى غواص البحار العلامة المجلسي "رضوان الله تعالى عليه" أن طاغية بني العباس المتوكل "لعنه الله" أراد إطفاء نور الله وإخفاء آثار ذرية رسول الله، لما أمر بحرث قبر الإمام الحسين "عليهم السلام" وأن يخربوا بنيانه ويخفوا آثاره، وأن يجروا عليه الماء من النهر العلقمي، بحيث لا يبقى له أثر، ولا أحد يقف على قبره الشريف.
وقد توعد عشاق الحسين بالقتل لمن زار قبره، وجعل رصدا من أجناده وأوصاهم: (كل من وجدتموه يريد زيارة الحسين "عليه السلام" فاقتلوه)! فبلغ الخبر إلى رجل من أهل الرافضة الأبرار يقال له (زيد المجنون)، ولكنه ذو عقل سديد، ورأي رشيد، وإنما لقب بالمجنون لأنه أفحم كل لبيب، وقطع حجة كل أديب، وكان لا يعي من الجواب، ولا يمل من الخطاب.
فلما بلغه أن اللعين أمر بحرث قبر الحسين "عليه السلام" وخراب بنيانه، وحرث مكانه، وقتل زواره، فعظم ذلك عليه واشتد حزنه ونقص عيشه
وأجرى دموعه وأقل هجوعه وغلب عليه الوجد والغرام وتجدد مصابه بسيده الإمام الحسين "عليه السلام".
وكان مسكنه يومئذ بمصر، فخرج من موطنه ماشيا على قدمه من غير دابة حزينا كئيبا هائما على وجهه شاكيا وجده إلى ربه وقد التقى بالبهلول بالكوفة وشرح له أسباب خروجه من مصر وحزنه على الإمام الحسين "عليه السلام"، فذهبا إلى كربلاء لزيارة قبور أولاد علي المرتضى "عليه السلام" حتى وصلا إلى قبر الإمام الحسين "عليه السلام"، وإذا القبر الشريف على حاله لم يتغير، وقد هدموا بنيانه، وكلما أجروا عليه الماء غار، وحار واستدار بقدرة العزير الجبار، ولم يصل قطرة واحدة إلى قبر الحسين عليه السلام (ولذلك سمي اليوم بالحائر الحسيني).
وكان القبر الشريف إذا جاءه الماء يرتفع أرضه بإذن الله تعالى، فتعجب زيد المجنون مما شاهده. وقال للبهلول: انظر يريدون ليطفؤا نور الله بأفواهم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون. ولم يزل المتوكل "لعنه الله" يأمر بحرث قبر الحسين عليه السلام مدة عشرين سنة، والقبر على حاله لم يتغير، ولا يعلوه قطرة من الماء.
ثم التقى (زيد المجنون) بالجندي الذي أمره المتوكل "لعنه الله" بحرث قبر الإمام الحسين "عليه السلام". ودار الحوار بينهما حتى أقنع الجندي واهتدى على يديه، وانكب على أقدام (زيد المجنون) يقبلهما.
وهو يقول لزيد: فداك أبي وأمي، فوالله يا شيخ من حين ما أقبلت إلي، أقبلت إلي الرحمة واستنار قلبي بنور الله، وإني آمنت بالله ورسوله. وكان لي مدة عشرين سنة وأنا أحرث هذه الأرض، وكلما أجريت الماء إلى قبر الحسين "عليه السلام" غار وحار واستدار. ولم يصل إلى قبر الحسين "عليه السلام" منه قطرة وكأني كنت في سكر وأفقت الآن ببركة قدومك إلي.
فبكى (زيد المجنون) وتمثل بهذه الأبيات:
تالله إن كانت أمية قد أتت
قتل ابن بنت نبيها مظلوما
فلقد أتاه بنو أبيه بمثله
هذا لعمرك قبره مهدوما
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا
في قتله فتتبعوه رميما
فبكى الجندي وقال: يا زيد قد أيقظتني من رقدتي، وأرشدتني من غفلتي وها أنا الآن ماض إلى المتوكل بسر من رأى، أعرفه بصورة الحال. إن شاء أن يقتلني وإن شاء أن يتركني. فقال له زيد: وأنا أيضا أسير معك إليه وأساعدك على ذلك.
ولما سمع ذلك المتوكل "لعنه الله" استشاط غيظا وازداد بغضا لأهل بيت رسول الله وأمر بقتل الجندي وشد رجله بحبل ليسحب في الأسواق وثم صلبه ليكن عبر لكل من يذكر أهل البيت عليهم السلام بخير.
ثم حاول زيد أخذ جثة الجندي وغسله وكفنه، وصلى عليه، ودفنه وبكى عليه بكاءا شديدا ولم يفارق قبره لمدة ثلاثة أيام يقرأ كتاب الله عنده. ثم سمع صراخا وعويلا، وإذا بالناس تحمل جنازة جارية حبشية للمتوكل، وقد عملوا لها شأنا عظيما ودفنوها في قبر جديد، وفرشوا فيه الورد والرياحين، والمسك والعنبر وبنوا عليها قبة عالية.
وهذا ما قد زاد الحزن على (زيد المجنون)، وتصاعدت نيرانه وجعل يلطم وجهه ويمزق أطماره، ويحثي التراب على رأسه وهو يقول: واويلاه وا أسفاه عليك يا حسين، أتقتل بالطف غريبا وحيدا ظمآنا شهيدا، وتسبى نساؤك وبناتك وعيالك، وتذبح أطفالك، ولم يبك عليك أحد من الناس، وتدفن بغير غسل ولا كفن، ويحرث بعد ذلك قبرك ليطفؤا نورك. وأنت ابن علي المرتضى وابن فاطمة الزهراء، ويكون هذا الشأن العظيم لموت جارية .. ولم يكن الحزن والبكاء لابن محمد المصطفى!
ثم أنشد يقول:
أيحرث بالطف قبر الحسين
ويعمر قبر بني الزانية
لعل الزمان بهم قد يعود
ويأتي بدولتهم ثانية
ألا لعن الله أهل الفساد
ومن يأمن الدنيا الفانية
كتب هذه الأبيات وارسلها إلى المتوكل "لعنه الله"، فاشتد غيظه وأمر باحضاره. واحتد الكلام بينهما وقد وعظه زيد ووبخه، مما أغاظ المتوكل وكاد أن يقتله. ثم سأله المتوكل: ماذا تعرف عن أبي تراب؟ (قالها استحقارا لأمير المؤمنين عليه السلام)
فأجابه زيد المجنون: والله إنك عارف به وبفضله وشرفه وحسبه ونسبه فوالله ما يجحد فضله إلا كل كافر مرتاب ولا يبغضه إلا كل منافق كذاب. وبدأ زيد المجنون يعدد فضائل أمير المؤمنين عليه السلام ومناقبه حتى ذكر منها ما أغاظ المتوكل "لعنه الله" فأمر بسجنه.
وأثناء نوم المتوكل لعنه الله، جاءه هاتف في نومه يأمره بإخراج (خادم الإمام الحسين عليه السلام - زيد المجنون). فقام المتوكل بنفسه يريد إخراج زيد من السجن، فلم يقبل زيد إلا بقبول شرطه، وهو أن يتم إعمار قبر الإمام الحسين "عليه السلام" وأن لا يعترض أحدا لزواره. فقبل المتوكل طلب زيد المجنون، خوفا من الهاتف الذي جاءه في الحلم من أن يهلكه الله ويذهب ملكه. فخرج (زيد المجنون) من السجن فرحا مسرورا، وجعل يدور في البلدان وهو يقول: (من أراد زيارة الحسين "عليه السلام" فله الأمان طول الأزمان). المصدر: (بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤٥ - الصفحة ٤٠٢ - ٤٠٧)
بقلم: عقيل حسين