8 ربيع الأول 1444
نشهد في هذا اليوم الحزين ذكرى استشهاد حجة الحجج الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت الأطهار أبي محمد الحسن العسكري (عليهم جميعا صلاة الله وسلامه).
وعلينا في مثل هذه الأيام أن نراجع تعاليم أئمتنا وما جاء عنهم من بينات وهدى حتى إذا وجدنا في فكرنا أو سلوكنا ما يتعارض معها أو يقصر عنها صححناه أو أكملناه فورا.
يقول الشيخ الحبيب:
مما منَّ الله به علينا؛ أن وفَّقنا لإحياء الروح الرافضية في أبناء هذه الأمة، بعدما كان الغموض - إجمالا - يكتنف موقف الشيعة الحقيقي من أبي بكر وعمر وأضرابهما من المنافقين، هذا إن لم ينقلب هذا الغموض إلى موالاة صريحة بفعل معاول الهدم البترية؛ أو خفية جراء صمت ألسنة الجبناء عن الصدع بالحق والقيام بوظيفتهم الشرعية. وبعدما كان أبناء الشيعة أنفسهم لا يعلمون على وجه التحديد جرائم أولئك المنافقين الطغاة، إذ لم تطرق أسماعهم قط ما نطق الأئمة عليهم السلام فيهم من الثلب والتجريم والتأثيم واللعن. وبعدما كان معظم قومنا يتوهمون أن اسم (الرفض والرافضة) سبة تندرج تحت قائمة التنابز المذهبي بالألقاب، في غفلة عما يحمله هذا الاسم التاريخي المقدس من شرف النسبة وسمو الهوية.
بعد جهود مضنية على مدار سنين وسنين؛ صار الافتخار باسم (الرفض والرافضة) سمة بارزة في الواقع الشيعي، يجري على ألسنة العلماء والخطباء بلا حرج، حتى لقد انعتق كثير منهم من عقدة التقية المغلوطة وأصبحوا مجاهرين بثلب الظالمين. أما الشعراء ومن ورائهم الرواديد وجمهورهم العريض؛ فمجاهرتهم وتكرارهم لمفردات وشعارات (الرفض والرافضة) بتحدٍّ وإصرار؛ غني عن الذكر والبيان.
هكذا نحن نعيش في عصر تفجر الثورة الرافضية المباركة، حيث يتحرر الإنسان الشيعي ويعيد اكتشاف هويته وانتمائه، وينطلق في دعوة غيره بثقة واعتزاز بسمته الرافضية. ومن هنا أخذ يتشكل ما بات يُعرف بالتيار الرافضي، وهو هذا الذي يحمل همَّ نشر الدعوة الرافضية، وقوامها البراءة من الظالمين منذ انقلاب السقيفة الأسود.
وكأي ثورة روحية تتطور على أرضية الواقع؛ فإنها ما إن تفرض نفسها في الساحة وتستقطب الجماهير وتبتني عليها أوضاع مؤسسية أو هياكل تنفيذية يمكن أن تجر نفعا؛ فإن ذلك يجعلها مطمعا لذوي المطامع، ومطمحا لذوي المطامح، الذين يجدون في الانضمام إليها وارتداء ردائها؛ فرصة لإصابة مال أو جاه أو شهرة، بعدما كانوا معدمين أو مغمورين. ولا سيما إذا كانت نجاحات المشاريع تتوالى، ودوران سيولتها المالية يتجاوز الملايين، وذياع الصيت يكاد يطبق الآفاق، فإن ذلك مما يسيل لعاب المستأكلين من أهل الدنيا، الذين كان منهم في حاشية كل معصوم من المعصومين عليهم السلام؛ عدد ليس بالقليل، امتطى الشيطان بعضهم إلى حد أن جعلهم يبتدعون عقائد جديدة كفرية، كعقيدة الواقفة، لا لشيء إلا طمعا في أموال الحقوق الشرعية.
ولئن كان بعضٌ منا ينام قرير العين غير قلق على نقاء هذا المنهج الرافضي وطهارة صفوفه؛ بعدما رأى صرامة عمليات التطهير الاتحادية من كل خبث ومستأكل، ومتطفل أو متسلل من حين لآخر؛ فإنا لسنا على هذا القدر من الاطمئنان، لا لأن تلك العمليات التطهيرية كانت قاصرة؛ فإنها كانت - بحمد الله - على أكمل وجه، ويستحق من قام بها في الإدارة الشكر على دقة المراقبة والمحاسبة.. وإنما لقناعتنا في أنه مهما بلغت الصرامة في مثل هذه العمليات والإجراءات؛ فإنها ما لم تقترن بزخات مترادفة من الوعظ والتوعية؛ فإنه لا ضمانة ههنا على المستقبل. فإن أعظم الحصانة وأقوى الضمانة؛ حين يكون أبناء التيار الرافضي؛ قلوبهم معمورة بالتقوى، ونفوسهم منصرفة عن الدنيا، على وعي عميق بمعنى (الرفض والرافضة) الذي لطالما كررنا أنه لا يقتصر على ما هو شائع، وهو مجرد رفض الطاغيتين ومن إليهما عليهم لعنة الله.
ليس (الرافضي) من اكتفى بإطلاق لسانه على أهل السقيفة وحسب نفسه ناجيا، فإنه لئن سدَّ على شيطانه هذا الباب بإظهاره البراءة من الظالمين؛ فماذا عن الأبواب الأُخَر المفتوحة؟!
هل يعلم هذا الذي يدعي أنه (رافضي) ما (الرفض) عند أئمتنا الأطهار صلوات الله عليهم؟ إنه ذو مفهوم أوسع وأشمل وأعمق بكثير. فهذا إمامنا الزكي العسكري صلوات الله عليه، عندما شكى له الرافضة الأوائل من أهل قم ذلك الظالم موسى بن بغا؛ أمرهم بأن يقرأوا دعاءً كان قد بعثه إليهم. ودعاؤه الشريف هذا مدرسة أخلاقية متكاملة، فيه من جليل المعاني ما يحتاج إلى تأمل عميق.
في هذا الدعاء الشريف نجده عليه السلام وقد قدَّم لنا من معاني (الرفض) ما أكثرنا عنه في غفلة، إذ يقول واصفا حال الإمام وشيعته الأبرار: «واجعله اللهم في أمنٍ مما يُشفَقُ عليه منه، ورُدَّ عنه من سهام المكايد ما يوجهه أهل الشنآن إليه وإلى شركائه في أمره ومعاونيه على طاعة ربه، الذين جعلتهم سلاحه وحصنه، ومفزعه وأُنسه، الذين سلَوْا عن الأهل والأولاد، وجفوُا الوطن، وعطَّلوا الوثير من المهاد، ورفضوا تجاراتهم، وأضروا بمعايشهم، وفُقِدوا في أنديتهم بغير غيبة عن مصرهم، وخاللوا البعيد ممن عاضدهم على أمرهم، وقَلَوُا القريب ممن صدَّ عن وِجهتهم».
الشيعة الرافضة إذن هم الذين «رفضوا تجاراتهم»! وهذه عبارة لا يمكن أن يُراد بها ذم التجارة من حيث هي هي؛ إذ قد ورد الحث عليها والمدح للمشتغل بها إن كان متفقها، كما بيّناه في بعض جلساتنا ومحاضراتنا. وإنما يُراد بهذا العبارة أن الشيعة الرافضة متى وجدوا تجاراتهم تشغلهم عن نصرة أئمتهم أو تعيقهم عن القيام بواجبهم الديني؛ رفضوها «وأضروا بمعايشهم»!
فإذا كان هذا التزاحم ما بين العمل الديني والعمل التجاري يوجب (رفض التجارة) عند الرافضي الأصيل وإن كان من أصحاب الملايين؛ فما ظنك بالذي يدخل العمل الرافضي بنية الانتفاع التجاري أصلا؟! أو الذي يدخله سالما ثم تغرّه هذه المشاريع المليونية فيتلوث بعد أن يزين له الشيطان الانتفاع منها؟! أ يكون مثل هذا الطامع الدنيء رافضيا؟! كلا وألف كلا!
كلا! لن تكون رافضيا حقا ما لم ترفض الباطل وأهله؛ وحب الدنيا وأهلها! هكذا علّمنا أبو القائم صلوات الله عليهما.