هذان نموذجان مهمان؛ أحدهما لحسن التدبير والاختيار، والآخر لخلافه. فلينتبه المؤمنون السائرون في درب الحسين (عليه الصلاة والسلام) إليهما، وليردّاه على واقعهم ليشخّصوا ما هم بصدده في هذه الحياة الفانية.
النموذج الأول: رجلٌ اسمه حبيب بن مظاهر، ترك عائلته وحيدة معزولة، وذهب والتحق بركب أبي عبد الله (صلوات الله عليه) حتى استشهد معه وأصبح مِن خير مَن أنجبته الأرض، بعد الأئمة والأنبياء والأولياء، أي من المجموعة ذات الثلاثة وسبعين رجلا الذين يقول فيهم صادق آل محمد عليه الصلاة والسلام:".. بأبي أنتم وأمي"!
النموذج الثاني: رجلٌ اسمه الطرماح بن حكم، لقِيَ الحسين (سلام الله عليه) في طريقه إلى كربلاء، وأراد أن يلتحق به لكنه استذكر عائلته، فعاهد الإمام على أن يعود لنصرته حالما ينتهي من توديع أهله وترتيب بعض شؤون معيشتهم من مِيَرة وما أشبه. ولمّا أن قام بذلك؛ توجّه إلى كربلاء، وبينما هو في الطريق وإذا به يسمع بالخبر المفجع:"قُتِل سيد الشهداء الحسين بن علي وسُبِيَت نساؤه"!!
فكيف كان شعور الطرماح حينها؟ لقد أحسّ بالندم وقفل راجعا إلى حيث مسكنه خائبا حزينا، لأنه لم يحظَ بشرف الاستشهاد بين يدي سيد شباب أهل الجنة.
أما حبيب؛ فإنه حََظِي بهذا الشرف الذي ما بعده شرف دون الطرماح، لأنه لم يفكّر بشأن معيشة عائلته بل لم يكترث، وأوكل أمرها إلى الله جل وعلا، ولم يؤخر نفسه عن اللحاق بالركب بدعوى الاكتراء والتجهيز.
انظروا ودققوا؛ لقد كان كلٌ من الرجلين مستعدا للتضحية والفداء، ونصرة سيد الشهداء عليه السلام، إلا أن أحدهما كان حسن التدبير والتصرف، فقدّر تقديرا حكيما، واختار أن ينزع نفسه من كل ما يربطه بهذه الدنيا، بما في ذلك عائلته، لكي ينال ذلك الفوز العظيم. أما الآخر فإنه أساء الاختيار وأخطأ التدبير الجيد فأوقع نفسه في الندم والحسرة وخسِر الركوب في سفينة النجاة"الأوسع والأسرع"، إذ كان بإمكانه اللحاق منذ البداية، وترك عائلته تتقبل الأمر الواقع فتسيّر شؤون معيشتها بنفسها منذ البداية، فأي فرق بين أن تبقى بلاه منذ اليوم الأول وبين أن تكون كذلك في اليوم الخامس عشر مثلا؟! فما دام الرجل مصمما على الشهادة فأي معنى للتأخير؟! سيما وأن تبرير هذا التأخير حسب ما قال الرجل - وهو صادق - لم يكن إلا توديع الأهل وتموينهم بشيء من الطعام والشراب!
إنها لحظة من الزمن فارقت بين رجلين، أحدهما وصل إلى أعلى المراتب وهو شافع يشفع للآخرين، والآخر بقي في مرتبته بين صعود ونزول إلى أن تُوِّفي وهو مشفوع يطلب الشفاعة من الآخرين!
لحظةٌ اختار فيها رجلٌ أن يضحي الآن لا في الغد، ليبقى اسمه متلألئا برّاقا على مرَ الأزمان، يمجّده الناس، ويلثمون ضريحه، ويتوسلون إلى الله تعالى به، ثم يفديه الإمام الصادق (عليه السلام) بأمه وأبيه - تعبيرا عن عظمته وعلوّ شأنه - ويغدو من الثلة المجاهدة التي تسيّدت الخلائق!
ولحظةٌ اختار فيها رجلٌ أن يضحي في الغد، إذ كان مقتنعا بهذه الخطوة، بيد أن بعض شؤون ما يربطه وعائلتَه بالدنيا صعبت عليه، فآثر أن يؤجل مشروع الفداء والتضحية والاستشهاد إلى أيام قلائل، كانت كافية لأن يخسر الفرصة الذهبية السانحة، ولأن يطويه النسيان! فلا أحد يعرف من يكون الطرماح بن حكم، ولكن الكل يعرف من يكون حبيب، ومن يكون زهير، ومن يكون برير، ومن يكون هاني، ومن يكون جون، ومن يكون الحر، ومن يكون عابس..
فيا أيها الشيعة! يا مَن تصرخون وتنادون أنصار أبي عبد الله الحسين (عليه الصلاة والسلام) قائلين: "يا ليتنا كنا معكم فنفوز معكم فوزا عظيما"! إن هؤلاء الأنصار عافوا دنياهم وضحّوا بكل ما يملكون، واختاروا القرار الصعب في الزمن الأصعب، دون تأخير ولا تعطيل ولا مراجعة للنفس، فإن التضحية لا تتطلب مراجعة، لأنها تضحية!
ألا فاعلموا أن التضحية في دنياكم هذه وعصركم هذا؛ أصبحت نادرة قليلة، لا أحد يقوى عليها إلا من امتحن الله قلبه بالإيمان، وكان مخلصا صادقا في ولائه لأئمته وسادته الأطهار عليهم الصلاة والسلام.
أيها الشيعة! قبل أن تندموا ننصحكم: ضحّوا بكل ما تملكون من أجل الحسين عليه السلام. إنه ينتظر منكم مساهمة فعالة ترقى إلى درجة التضحية والبذل العظيم من أجل إيصال صوته وقضيته إلى شعوب العالم. مساهمة لا تتوقف فقط عند حدود الممكن والمعهود والتقليدي. مساهمة تصنع إعجازا يجعل أمما تدخل في الإسلام والتشيّع أفواجا باسم الحسين سيد الشهداء صلوات الله عليه، فليفكر كل واحد في مصداق لذلك.
قبل أن تندموا كما ندم الطرماح.. فكروا أن تصبحوا كحبيب، لتفوزوا بالدنيا والآخرة. ولا تتريثوا فإن الوقت يمضي، وبعدها لن تنفع الحسرة!