كيف للإنسان أن يعيش بلا دعاء؟! إن مَن يعيش بلاه تكون عيشته ضنكى سواءً أدرك ذلك أم لم يدرك، فالدعاء ليس مجرّد خطاب التماس للحوائج موجه من العبد إلى خالقه؛ بل هو ركن أساسي في حياة الإنسان، إذا فُقد أو تغوفل عنه؛ تختل تلك الحياة في شتى أبعادها ومناحيها.
هو ركن لأنه يغذي الروح الإنسانية بالأمل، ويعينها على الصبر والتحمل، ويهذّب سلوك صاحبها وأخلاقه، ويسمو بعقله وإدراكه، ويأخذ بيده نحو الكمال، وينجيه من المهالك والأهوال، ويرسم له طريق السعادة في الداريْن. إنه دواء لكل معتل، وبلسم لكل مجروح، وأمان لكل خائف، وغوث لكل مكروب، وغنى لكل فقير، ومدد لكل محتاج. إذ به يخاطب الإنسان مَن لا يحدّ قدرته حد، ولا يقف أمام إرادته مانع، ولا تنقص الأعطيات خزائنه، ولا يزيده إلحاح الملحين إلا عطفا ورأفة وجودا وكرما، ذلك الذي إذا أراد شيئا قال له: كن.. فيكون! إنه رب الخلائق أجمعين خالق السماوات والأرضين الحكيم المتعال جل جلاله.
فالدعاء إذن؛ ركن أساسي في حياة الإنسان السوي، وضرورة من ضرورات المسيرة البشرية، وحاجة فطرية لا غنى عنها. لذا ترى أن الذين يواظبون على الدعاء يكونون أكثر استقرارا نفسيا من غيرهم، حتى ولو عصفت بهم أنواع المصيبة وضروب اللأواء، ودونك دليلا ما يعيشه الغرب اليوم، فمع كل هذا التقدّم المادي الذي وصل إليه، والذي جعل الإنسان الغربي يعيش أرقى أنواع المعيشة المرفّهة بالقياس إلى غيره من أفراد شعوب العالم؛ فإنه يبقى يشكو من أزمات عميقة ويعاني من مشاكل مستعصية معظمها يرتبط بجانب النفس والروح والمعنويات، فتجد مثلا أن الإحصاءات تشير إلى أن الغرب يشهد أعلى معدّلات الانتحار سنويا! وإذا بحثت عن السبب تجده تافها عند الجلّ الأعظم من هؤلاء المنتحرين، بل لا تكاد تجد سببا مقنعا البتة!
لقد وفّر الغرب للذي يعيش فيه الأمان والحرية والمساواة والرفاه والضمان الاجتماعي وسيادة القانون وكل ما يمكن أن يجعل الإنسان في هذه البلاد يعيش باستقرار، فكيف يمكن تصوّر أنه في ظل كل هذا النعيم – إن سلّمنا به جدلا - يقدم هذا الكم الهائل سنويا على الانتحار؟! كيف يمكن تفسير أن الاستبيانات تُظهر مثلا أن أكثرية الشعوب الغربية تعاني من التوتر العصبي وعدم الراحة النفسية حتى أصبحت تجارة العيادات النفسية من أكثر أنواع التجارة رواجا؟!
إن الخلل يكمن في أن الغرب جعل المادية تطغى على القيم الروحية والمعنوية حتى أصبحت شبه غائبة عن وعي الإنسان الغربي، فغدت معيشته منقوصة لفقدانها هذا الركن الأساسي المؤثر في الاستقرار النفسي، والقيم الروحية والمعنوية عمادها هو.. الدعاء. وحيث لا دعاء عند الغرب، ولا مناجاة، ولا ابتهال، ولا تضرع؛ فلا حياة! وحيث لا يشعر الغربي بطعم الحياة، فإنه يفضل الموت.. وينتحر!
وغير خفي أن المشاكل الاجتماعية الكبرى التي يعاني منها الغرب تعود جذورها في معظمها إلى غياب القيم الروحية والمعنوية، وهذا أمر طبيعي، إذ ما الذي يمنع الإنسان من الإجرام مثلا إن لم يكن له وازع ديني أو روحي معين؟ إن القانون الوضعي مهما بالغ في تشديد العقوبة، والسلطة مهما بالغت في مكافحة الجريمة وحماية المجتمع، فإن ذلك ليس بمانع من أن يجرم الإنسان في حق أخيه الإنسان، إذ هو قادر في حالات كثيرة على الإفلات من قبضة المساءلة والعقاب القانوني، فلا يكون بين يديه رادع عن ارتكاب الجريمة حيث لا يعتقد أصلا بالحياة الأخروية ولا بالعقاب الإلهي. من هنا كان الدين والقيم الروحية والمعنوية ضرورة لتقويم سلوك الإنسان والحفاظ على المجتمع ودرأ الآفات الاجتماعية عنه، والدعاء كما أسلفنا، عماد الدين، لأنه الارتباط الروحي الذي يربط العبد بخالقه.
وحتى هذا الذي يؤمن ظاهرا بالحياة الأخروية والعقاب الإلهي، لا يتعمّق إيمانه بما يتهيّب به من ارتكاب الخطأ والجريمة إلا بمثل الدعاء، ففضلا عن كونه بمثابة عصمة له من وساوس الشيطان وهوى النفس الأمارة بالسوء، وفضلا عن كونه موجبا للسمو الأخلاقي؛ فإنه في الوقت ذاته يبصّر الإنسان بطريق نجاته إلى جوار طريق هلاكه! فيزيّن له الطاعة ويحبّبها إليه، ويقبّح له المعصية ويكرّهها إليه، ويجعله يخشى من الإقدام على ما فيه سخط الله تبارك وتعالى، فيشمل ذلك الإجرام بمختلف أنواعه، سواءً كان في حق الله تعالى، أو في حق أوليائه، أو في حق الإنسان، أو الحيوان، أو النبات، أو حتى الجماد. وبذا يكون الدعاء مدرسة تهذيبية أخلاقية متكاملة توصل الإنسان نحو الكمال والسعادة والراحة، كما يكون عاصما للمجتمع من الانحراف والجريمة والفساد والتدهور بمصاديقه المختلفة.
• الدعاء كنز نحن نمتلكه
لا تمتلك أمة من الأمم ما تمتلكه أمة التشيع من كنوز الأدعية والمناجاة والتوسل والابتهالات والزيارات، فهي الوحيدة التي تتمتع بهذا التراث الضخم والمخزون العظيم الذي تفتقده بقية الأمم من أهل الأديان والملل والمذاهب الأخرى، فالذي يبحث في ما لديها من مأثورات الأدعية لا يكاد يجد غير الفتات المتناثر في قبال هذا الكم الهائل مما في عالم التشيع، ولو وُزن هذا الفتات في ميزان الروح لما وُجد له تأثير عليها أو هو طفيف لا يُعتد به، فلا أدب فيه أو بلاغة تُشعر الإنسان بالتعلق الروحي بخالقه كما ينبغي له.
أما في عالم التشيع، فترى أعذب كلمات الدعاء مسبوكة في أروع المقطوعات النثرية بحيثية تهزك روحيا من الأعماق فيصعب على البشر أن يعتبرها من كلام البشر! والحق أنها كذلك، لأن من صاغها لم يكن بشرا عاديا، بل كان نبيا أو إماما معصوما يتلقى الوحي من السماء، فلا يجري على لسانه إلا ما أملاه الله سبحانه عليه.
إنهم محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم) الذين لم تعرف الخليقة لهم نظيرا، فهم الأنوار الإلهية الذين نصبهم الله تعالى علما لهداية البشرية جمعاء وإرشادها إليه، وهم مظهر لطفه، ورحمته المهداة إلى كل الأمم، الذين أقر بجلالة قدرهم وعظيم منزلتهم المؤالف والمخالف، والصديق والعدو، وبلغ شأوهم مبلغا لا يسمو إليه أحد من الأولين والآخرين، ودونك شاهدا ما أُطروا به من عظماء علماء الشرق والغرب، من مختلف الشعوب والأديان وشتى الاتجاهات الفكرية والثقافية، الذين سجّلوا شهاداتهم بحق أهل بيت النبوة (صلوات الله وسلامه عليهم) بما يعجز المرء عن إحصائه وتعداده. وعليه فلا تكون هذه الدرر والجواهر من الأدعية والزيارات بغريبة عن كنوز أهل البيت عليهم السلام.
وكما نبعت من ينبوع أهل البيت (عليهم السلام) أنهار شتى في الدين والعلم والحضارة والأخلاق والإدارة والتربية والاقتصاد وغيرها؛ كذلك نبع من ينبوعهم نهر الدعاء الذي أروى المتعطشين إلى رحمة رب العالمين جل جلاله. فكان الدعاء سمة أساسية من سمات تعاليمهم ووصاياهم صلوات الله عليهم، ومخطئ من ينظر إلى أدعيتهم الشريفة نظرة أنها كانت مجرد نظم لكلمات تعبدية، فيجعلها محدودة بهذا الإطار، بل هي أعم وأشمل من ذلك، ففيها تجد أعظم وأروع التعاليم في شتى الحقول، وقد كان الأئمة المعصومون (صلوات الله عليهم) يعمدون من خلالها إلى تعليم أتباعهم وشيعتهم مختلف صنوف المعرفة، فتجد تارة في ثنايا بعض الأدعية لمحات عن العقيدة، وفي أخرى عن التاريخ والسيرة، وفي ثالثة عن الفقه والأصول، وفي رابعة عن العلم والفكر، وفي خامسة عن الأخلاق والآداب، وفي سادسة عن النظم والإدارة، وفي سابعة عن الغيب والآخرة.. وهكذا.
والحق أننا ما زلنا مقصّرين في استيعاب هذا التراث العظيم من أدعية أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام) استيعابا شموليا، إذ ما زلنا نتعامل مع ما ورد عنهم من أدعية تعاملا قاصرا عن الاستفادة المثلى، وخذ مثلا على ذلك عدم التفات المجامع والحوزات العلمية إليها بعين الاستنباط الشرعي، والحال أن فيها من القواعد والأحكام ما لا يُحصى لمن يكون خبيرا متتبعا متضلعا في الفقه، وبإمكانه أن يستفيد منها مئات إن لم نقل آلاف المسائل في العبادات والمعاملات. وقد كان هذا من جملة ما نادى به سيد فقهاء عصره آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي قدس الله نفسه الزكية، وقد سار فيه في موسوعته الفقهية العملاقة كما في بعض أجزائها، إذ كان يستدل بما ورد في بعض الأدعية لإثبات المطالب المتنوعة.
• الدعاء سلاح بالمعنييْن
قديما قال رسول الله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين". وقد أنارت التاريخ مقولته النبوية النورانية هذه فغدت نبراسا لكل سائر على درب الإسلام والإيمان والقرب من الخالق جل وعلا.
أما كون الدعاء عمادا للدين فقد تبيّن معناه مما سبق، وهو كونه ركنا أساسيا وحاجة لا غنى عنها. وأما كونه سلاحا فله معاني متعددة نقتصر منها على معنييْن نوضحهما. الأول؛ أنه سلاح شخصي ضد مَن يظلمك أو يجور عليك، وهو في واقع الحال من أقوى أنواع الأسلحة وأشدها فتكا! فإنك فيه تستعين بذي العزة والجبروت (جلت قدرته) على الخصم الطاغي، وأنّى لهذا الخصم أن يجابه قدرة الله وقوته؟!
لقد أرانا التاريخ ومازال يرينا، كيف أهلك الله تعالى الجبابرة بدعاء المظلومين، الذي أصبح سهاما وقعت في مقاتلهم فأفنتهم، ولهذا ورد عن أئمتنا (عليهم السلام) التحذير الشديد من التعرض لدعوة المظلوم لأنها دعوة مستجابة، فقد رُوي عن مولانا الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: "إياكم أن تعينوا على مسلم مظلوم فيدعو الله عليكم ويُستجاب له فيكم، فإن أبانا رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول: اتقوا الظلم فإن دعوة المظلوم مستجابة". وفي خبر آخر عنه (عليه السلام) وصف فيه دعوة المظلوم بأنها: "ليس لها حجاب دون العرش".
وهكذا يكون الدعاء من أقوى وأشد أنواع الأسلحة، بل هو أمضاها حقا، ولو أن الناس التفتوا إلى ذلك لما عمدوا للاستعانة بغيره من الأسلحة التقليدية البسيطة! إن هاهنا سلاحا تستخدمه باسم الله القاهر المنتقم الجبار، فما بك تستخدم أسلحة من صنع البشر؟! لماذا تستعين بفلان وعلان وتهمل الاستعانة بالرحيم الرحمان؟!
قد رُوي في الحديث القدسي عن مولانا الصادق عن أبيه الباقر عن أبيه السجاد عن أبيه سيد الشهداء عن أبيه أمير المؤمنين عن أخيه رسول الله (صلوات الله عليهم أجمعين) عن الله تبارك تعالى أنه أوحى إلى أحد أنبيائه: "أيأمل عبدي فى الشدائد غيري والشدائد بيدي؟! ويرجو سواي وأنا الغنيّ الجواد؟! بيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني. ألم تعلموا أنّ من دهاه نائبة لم يملك كشفها عنه غيري، فمالي أراه يأمله معرضاً عنّي وقد أعطيته بجودي وكرمي ما لم يسألني؟! فأعرض عنّي، ولم يسألني، وسأل في نائبته غيري! وأنا اللّه أبتدئ بالعطية قبل المسألة".
هذا هو المعنى الأول، وأما المعنى الثاني من معاني كون الدعاء سلاحا، فهو اعتباره سلاحا عقيديا في مواجهة الأديان والمذاهب الباطلة، فاللازم على الموالين لأهل بيت العصمة (عليهم السلام) أن يستثمروا هذا السلاح في إثبات ولايتهم (صلوات الله عليهم) وأن التشيع هو الإسلام الحق الذي ارتضاه الله تعالى لخلقه، لا سواه.
وكما أننا نتحدى أهل بقية الأديان بالقرآن الحكيم، ونبرزه أمامهم كإثبات على اتصال ديننا بالوحي وأنه هو الحق، كون القرآن كتاب إعجاز؛ كذلك ينبغي لنا أن نتحدى غيرنا بمثل الصحيفة السجادية، وأدعية أهل البيت (عليهم السلام) المأثورة، فإنها أيضا من أعظم الإثباتات على اتصال ديننا بالوحي وأنه هو الحق، ذلك لأن المنصف إذا تدبّر في هذه الأدعية العظيمة بما تحمله من مضامين فإنه يتيقن بأنها لا تصدر إلا ممن يصله خبر السماء.
وكما أننا نأتي بالقرآن الحكيم كمعجزة، فكذلك ينبغي لنا أن نأتي بأدعية أهل البيت (عليهم السلام) كمعجزة، فنتحدى فيها سائر أهل الملل والمذاهب الأخرى قائلين: هل من نظير؟! وأين وعند من؟! من يملك كل هذا الكم والكيف من الأدعية الربانية النورانية هذه؟! أي دين؟! أي مذهب؟!
• موانع استجابة الدعاء
كثير من الناس يردّدون هذه العبارة: "نحن ندعو وندعو ولا يُستجاب لنا"! إن هذا واقع بيد أن على هؤلاء أن يبحثوا في السبب الذي مُنعوا لأجله من استجابة الدعاء.
تارة تكون موانع استجابة الدعاء متعلقة بصدور الذنوب من العباد، فتكون تلك الذنوب سببا لغلق باب الاستجابة والعياذ بالله. وتارة أخرى تكون الموانع غير متعلقة بصدور الذنوب، بل تكون لها أسباب أخرى ترتبط بالمصالح والمفاسد، فيكون عدم الاستجابة أو تأخرها مثلا في صالح الداعي وإنْ لم يدرك ذلك.
أما من القسم الأول، فإليك تفصيله على لسان مولانا مولى الموحدين أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام، فقد قام إليه رجل بعد خطبة له قائلا: "صدقت يا أمير المؤمنين، أنت القبلة إذا ما ضللنا، والنور إذا ما أظلمنا، ولكن نسألك عن قول الله تعالى: ادعوني أستجب لكم. فما بالنا ندعو فلا يُجاب لنا دعاؤنا"؟
أجابه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "إن قلوبكم جاءت بثمانِ خصال:
أولها؛ أنكم عرفتم الله، فلم تؤدوا حقه كما أوجب عليكم، فما أغنت عنكم معرفتكم شيئا!
والثانية؛ أنكم آمنتم برسوله، ثم خالفتم سنته وأمتّم شريعته، فأين ثمرة إيمانكم؟!
والثالثة؛ أنكم قرأتم كتابه المنزل عليكم، فلم تعملوا به! وقلتم: سمعنا وأطعنا، ثم خالفتم!
والرابعة؛ أنكم قلتم أنكم تخافون من النار، وأنتم في كل وقت تُقدمون عليها بمعاصيكم، فأين خوفكم؟!
والخامسة؛ أنكم قلتم أنكم ترغبون في الجنة، وأنتم في كل وقت تفعلون ما يباعدكم منها، فأين رغبتكم فيها؟!
والسادسة؛ أنكم أكلتم نعم الله ولم تشكروه عليها!
والسابعة؛ أن الله أمركم بعداوة الشيطان وقال: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا. فعاديتموه بالقول، وواليتموه بالمخالفة!
والثامنة؛ أنكم جعلتم عيوب الناس نصب أعينكم، وعيوبكم وراء ظهوركم، تلومون من أنتم أحق باللوم منه!
فأي دعاء يُستجاب مع هذا وقد سددتم أبوابه وطرقه؟! فاتقوا الله، وأصلحوا أعمالكم، وأخلصوا سرائركم، وأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، فيستجب الله لكم دعاءكم".
هذا هو القسم الأول، أما القسم الثاني؛ وهي موانع استجابة الدعاء غير المعاصي والذنوب، فتشير إليها جملة من الروايات الشريفة، منها ما رُوي عن غير واحد من الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم، من أن الله تعالى يتعمّد تأخير استجابة دعاء المؤمن لأنه يحبّ صوته ومناجاته، فيريد له أن يطيل دعاءه، وفي المقابل فإنه قد يعجّل استجابة دعاء غير المؤمن لأنه يكره صوت دعائه!
هكذا ورد مثلا عن إمامنا الصادق صلوات الله عليه: "إنّ العبد ليدعو فيقول الله عزّ وجلّ للملكين: قد استجبت له، ولكن احبسوه بحاجته، فإني اُحب أن أسمع صوته، وإنّ العبد ليدعو فيقول الله تبارك وتعالى: عجّلوا له حاجته فإني أبغض صوته"!
ومعنى كون الله يحب سماع صوت المؤمن فيؤخر استجابة دعائه أنه يريد أن يكافئه بمقام ومنزلة أعلى في الجنة، لأنه على قدر الصبر يرتفع مقام الإنسان عند الله تعالى.
كما أن معنى كون الله يبغض سماع صوت غير المؤمن فيأمر باستجابة دعائه فورا هو أنه سبحانه لا يريد له أن يحظى بذلك المقام في الآخرة فيعطيه ما سأله في الدنيا التي هي جنته، أما الآخرة فسجنه، والعكس بالعكس بالنسبة للمؤمن، على ما ورد عن إمامنا الحسن المجتبى صلوات الله عليه.
ولربما يتعجّب المظلوم من عدم استجابة دعائه رغم ما ورد مؤكدا من أنه مُستجاب، فحينئذ عليه أن يفهم أن الاستجابة مؤخّرة مؤجلة لأسباب غيبية تتعلق به شخصيا. وقد أشار الله (تبارك وتعالى) إلى سببين أساسيّين منها في ما أوحاه إلى داود النبي (صلوات الله عليه) كما في الحديث القدسي، وفيه: "قل للمظلوم: إنما أؤخر دعوتك وقد استجبتها لك على من ظلمك لضروب كثيرة غابت عنك، وأنا أحكم الحاكمين.
إما أن تكون قد ظلمت رجلا فدعا عليك، فتكون هذه بهذه لا لك ولا عليك. وإما أن تكون لك درجةٌ في الجنة لا تبلغها عندي إلا بظلمه لك، لأني أختبر عبادي في أموالهم وأنفسهم".
فأمر تأخير الإجابة دائر إذن بين حطّ ذنب سابق وارتفاع درجة مستقبلا. وإذا كان الأمر هكذا، فهنيئا للمظلوم الداعي على كل حال!
• الدعاء في الرخاء قبل الشدة
مشكلة كثير من الناس أنهم لا ينشطون في الدعاء إلا حين نزول البلاء والشدة! ولا يفكرون بالاستغفار أو التكفير عن الذنوب أو ردّ المظالم إلا حينما يقعون في أزمة!
إن هذا هو أحد أسباب بُعد الإنسان عن ربّه، وهذا البعد هو الذي يحجب الدعاء عن السماء، فإن كان الواحد منا متبرّما من عدم استجابة دعائه مع أنه مظلوم مكروب؛ فليستذكر حياته قبل ذلك، وليقارن بين مستوى ودرجة إقباله على الدعاء والتضرع قبل وقوع الشدة، أي في زمن الرخاء، وبعد ذلك. فإن كان هناك تفاوت فاحش، فلا يلومنَّ إلا نفسه ولا يتعجبنَّ من تأخر استجابة دعائه!
هناك بعضٌ منا لم يفتح كتاب دعاء ليدعو في وقت راحته حتى مرة واحدة! ولا تجده يخصص من وقته اليومي حتى ثوان معدودة للدعاء! يظن نفسه مشغولا بما هو أهم وأولى! وأن لا وقت لديه "يضيّعه" في الدعاء! ثم لا ضرورة.. فإنما هي مستحبات والمهم فقط هو الواجبات، فما دام قد أدّى فرائضه اليومية الخمس – ولو كنقر الديكة – فلا حرج ويريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر!
هكذا يفلسف كثير من الناس إعراضهم عن الدعاء وتجاهلهم له، أما حين تنزل بساحة هؤلاء البلايا والأضرار؛ فترى الواحد منهم يدعو بفنون الدعوات طولا وعرضا! ويقتطع من "وقته الثمين" ساعات كثيرة للصلاة والدعاء! بل تراه يتسمّر على سجّادة صلاته غارقا في الخشوع والتضرّع ودموعه تجري على خدّيه! وكيف لا؟ وقد رأى مثلا أنه قد أُصيب بالمرض الخبيث (السرطان) ولا منجى له سوى اللجوء إلى الله تبارك وتعالى!
هاهنا مكمن الخلل في نفوسنا، فلنصلحه، ولنكن في أوقات الراحة والرخاء أكثر اجتهادا في الدعاء من أوقات الشدة والمصيبة. وويلا لنا إن كنّا ممن وصفهم الله تعالى في كتابه بالقول: "وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ! وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ"! (فصلت: 52).
• كتاب المفاتيح
لم يحظ كتاب من كتب الأدعية والزيارات بمثل الشهرة التي حظي بها كتاب "مفاتيح الجنان" لشيخ محدثي عصره الحاج الشيخ عباس القمي رضوان الله تعالى عليه، وذلك يعود إلى أسباب متعددة، منها خبرة الشيخ (قدس سره) وتضلعه في الأحاديث والأخبار، حيث جدّ في انتقاء المعتبر منها لتدوينه في هذا الكتاب ردّا على كتب أخرى مشحونة بالغث والسمين، ومنها كتاب "مفتاح الجنان" الذي آلم الشيخ انتشاره مع ما يحويه من الموضوعات غير المعتبرة في نظره، فشحذ همّته لتأليف هذا الكتاب كبديل عنه وأسماه "مفاتيح الجنان".
ومن أسباب انتشار هذا الكتاب الشريف دقة اختيار الشيخ للأدعية والزيارات المجموعة فيه، فقد حرص على أن تكون بمثابة برنامج عبادي يومي لكل مؤمن. والحق أنه كذلك، إذ هو يبرمج الحياة العبادية لكل مؤمن في سنته وشهره ويومه، وسائر أحواله، فيجد فيه ما يتمكن أن يبقى به على اتصال دائم بربّه سبحانه، في كل لحظات حياته.
ولا ريب في أن السبب المحوري الذي جعل هذا الكتاب ينال هذه الشهرة العظيمة وهذا الانتشار الهائل، بحيث أصبح تاليا للمصحف الشريف في كل بيت؛ هو إخلاص الشيخ القمي (قدس سره) في نيّته، فلم تكن غايته من إعداده لهذا الكتاب إلا رضى الله تبارك وتعالى، لا الربح، أو الشهرة، كما يصنع غيره من بعض الناس!
إن هذا الإخلاص هو الذي جلب للشيخ هذا التوفيق الإلهي الكبير وهذه البركة الربانية العظيمة. واليوم، ومع أنه (قدس سره) قد انتقل إلى جوار ربّه، إلا أنه في كل يوم، بل في كل ساعة، بل في كل لحظة على ما أعتقد، ترتفع درجته عند الله تبارك وتعالى من خلال صدقته الجارية هذه! ذلك لأن أي أحد من المؤمنين أو المؤمنات في شرق الأرض أو غربها، يفتح كتاب "مفاتيح الجنان" ليقرأ منه دعاء أو زيارة، مختصرة أم مطوّلة، فإنه يُضاف في تلك اللحظة إلى حسنات صاحب هذا الكتاب المزيد وتعلو درجاته أعلى فأعلى!
وهل لنا أن نحصي اليوم عدد الناس الذين يستفيدون من كتاب "مفاتيح الجنان" وكم مرة يطالعون فيه ويقرأون منه؟! إنهم بالملايين بل بألوف الملايين! وينتقل كتاب "مفاتيح الجنان" من يد إلى يد، ومن جيل إلى جيل، إلى ما شاء الله تعالى.. فكم من الحسنات تصب يوميا في ميزان الشيخ عباس القمي؟! وكم من الدرجات يرفعه الله تعالى في كل لحظة في جنان الخلد؟!
يُنقل عن أحواله (قدس سره) أنه وبعد تقدّم العمر به ووصوله إلى مرحلة الشيخوخة والعجز، تشرّف ذات مرة بزيارة المولى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في مرقده المطهر بالنجف الأشرف، وقد كان الحرم مزدحما بالمؤمنين إلى درجة أن الشيخ وبسبب كبره في السن لم يستطع الدخول إليه رغم المحاولات المتكررة إذ كانت تنقطع أنفاسه!
فوقف الشيخ (رحمة الله عليه) عند الباب ودموعه تتقاطر على وجنتيه وهو يخاطب مولاه أمير المؤمنين (عليه السلام) بالقول: "كيف آتي إليك لأزورك ولا أستطيع الدخول"؟! وإذا بأحد المؤمنين يأتيه ويسلّم عليه ويقول له: "يا شيخ عباس! إن كل واحد من هؤلاء الزائرين الذين تراهم يدخلون إلى الحرم؛ يدخل معه الشيخ عباس القمي ويزور معه ويشاركه الأجر والثواب"! وبالفعل فقد انفرجت أسارير الشيخ رضوان الله تعالى عليه، فكتابه "مفاتيح الجنان" كان محمولا بيد كل واحد من الزائرين.
لله درّ الشيخ.. فقد كان بإمكانه أن ينادي في تلك اللحظة وسط الجموع: "أنا الشيخ عباس القمي صاحب مفاتيح الجنان" لتلتف حوله الناس وتحمله على الأكتاف إلى داخل الحضرة المقدسة والضريح الطاهر! لكنه لا يفعل ذلك، فليس هو من طلاب الشهرة الدنيوية الزائفة!
إن هذا هو معنى الإخلاص في النية، أن تكون أعمالك خالصة لوجهه الكريم، جل وعلا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.