تعقيبًا على الضجة المفتعلة من أنصار عائشة، التي تلت الاحتفال المبارك بذكرى هلاك الحميراء في 17 رمضان 1431 من قِبل هيئة خدام المهدي عليه السلام في لندن، افتتح سماحة الشيخ ياسر الحبيب سلسلة ردوده بحمد الله «تبارك وتعالى» وشكر المولى صاحب الأمر «صلوات الله عليه» على التوفيق لإحياء هذا اليوم بذلك الاحتفال الذي حقق إقبالا لم يكن يتوقعه الشيخ نفسه، وذلك لكون الأمر جديدًا على الساحة الشيعية ولإثارته الحساسية، لكن المفاجئة كانت بامتلاء الصالة بالحضور وكون البرنامج حافلاً وقويًا مما أثار استشعار سماحته بحضور الملائكة في الاحتفال وادخال السرور على قلب رسول الله والأئمة الأطهار عليهم السلام بمن فيهم إمامنا صاحب العصر «صلوات الله عليه» ، داعيًا سماحته الإخوة الحاضرين إلى معرفة قدر ما صنعوه من أمر يحق لهم أن يفخروا به، آملاً أن تزداد احتفالات هذه المناسبة في كل عام.
وأكّد سماحته أن في الأيام التي تلت الاحتفال لم تكن ردود الفعل علمية على الاطلاق، حيث كان يتمنى أن يقوم أحد علماء أهل الخلاف بتفنيد كلمة سماحته في الاحتفال عن طريق رد الأدلة والبراهين، إلا أن الرد أتى بلغة تأليبية استفزاعية تثير الهلع مع أطنان من الشتائم والتسفيهات والتحقيرات وبتكرار الكلام التقليدي المعهود لدى الطائفة البكرية من قبيل "أمـّـنا" و "الصدّيقة بنت الصدّيق" و "المبرّأة من فوق سبع سماوات" و "فضل عائشة كفضل الثريد على الطعام" ، وهو ما يُعرف عندنا بالعملية الببغائية، حيث أتى كالعادة هذا الكلام التقليدي منهم دون أن يكلّفون أنفسهم عناء الاستماع لكلمة الاحتفال وما جاء فيها من أدلة وبراهين لإثبات أن عائشة في النار على ما يرويه قومهم وعلى مبانيهم أيضا.
ثم تطرق سماحته إلى أولى نماذج ردود الفعل الخاوية من المضمون لأحد مشايخ الفرقة البكرية في الكويت وهو المدعو نوّاف السالم الذي ألقى محاضرة في أحدى ليالي شهر رمضان رد فيها على المحتفلين بهلاك عائشة في العاصمة البريطانية لندن تحت توجيه وإشراف سماحة الشيخ الحبيب، وكان الداعية البكري قد عرج من نقل ترجمة لأحد علمائه الذي كان يُوصف بأنه (أحيْمر أو حُميْر) ليردف بأنه كعائشة التي وُصِفت بأنها (حميراء) ليبدأ بعد ذلك هجومه على سماحة الشيخ والمحتفلين معه بهلاك عائشة باتهامهم بالزندقة والكفر بالقرآن والخروج عن ملة الإسلام والضلال والخبث وإيذاء رسول الله في عرضه، كما اتهم أيضا عوام الشيعة بأنهم جهلة كقطيع الغنم!.
وفنّد سماحته اتهام الداعية البكري لعوام الشيعة بأنهم قطيع غنم بنقله مقتطفات من تقرير بعنوان ”الأردن: تمدد شيعي سياسي وديني والأعداد متضاربة “ نشرته إحدى الصحف البكرية الإلكترونية السعودية وهي صحيفة "إيلاف" في عددها الصادر بتاريخ (12 فبراير 2010) تشهد فيه بالحق على بني جلدتها بحركة التمدد المذهبي الشيعية، حيث أشار التقرير إلى قول أحد المحللين السياسيين الخبراء بشئون الحركات والفرق الإسلامية في الأردن: ”أن هنالك اتفاقـًا على أن المتشيّعين يمتازون بمستوى ثقافي جيّد وأكثرهم من المتعلمين والدارسين“ و ”جماعات التكفير والقاعدة يتسم أفرادها بضعف التحصيل العلمي والمعرفي ويتسمون في الأغلب بقلة الاطلاع والدراسة وضحالة الجدل والمحاججة“.
ثم استطرد سماحة الشيخ الحبيب التعليق إلى معنى كلمة ”الحميراء“ مؤكدًا أنه لم يُعهد في كتب اللغة والتراث العربي استعمال هذا اللفظ لمن يكون لون بشرتها (أبيض مشرّب بحمرة) حيث أن هنالك اتفاق على أن هذه الصفة كانت صفة بشرة رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلّم» التي وصفه بها أنس بن مالك وشرحها ابن حجر العسقلاني في كتابه (فتح الباري في شرح صحيح البخاري) ناقلاً تواتر الوصف في رويات كتب جمهرة من علماء الطائفة البكرية، والنتيجة هي أن العرب تقول للأبيض المشرّب بحمرة (أزهر) ولا تقول له (أحيْمر)!.
والدليل أن بنت رسول الله فاطمة «صلوات الله عليها» حملت صفة أبيها فكانت (بيضاء مشرّبة بحمرة) فوُصفت بالزهراء، وقد روي في مصادر القوم أن أنس بن مالك سئـَل أمه عن فاطمة بنت رسول الله صفي لي إياها فقالت: ”كانت كالقمر ليلة البدر أو الشمس كفّر غماما إذا خرج من السحاب، بيضاء مشرّبة حمرة، لها شعر أسود، من أشد الناس برسول الله شبها، والله كما قال الشاعر: بيضاء تُسحب من قيام شعرها وتغيب فيه وهو جثلٌ أسحمُ ... فكأنها فيه نهارٌ مشرقٌ وكأنه ليلٌ عليها مظلمُ“ (مستدرك الحاكم/ج3/ص161) ، وقد كانت هذه الصفة هي صفة السيدة أم سلمة أيضًا، فالعرب تعبّر عن (البيضاء المشرّبة بحمرة) بأنها (زهراء) وهذا المعنى نص عليه الزبيدي في كتابه (تاج العروس من جواهر القاموس/ج3/ص250).
وأعرب سماحة الشيخ الحبيب عن استياءه من الثقافة البكرية التي تُخرِج الألقاب الصادرة من رسول الله «صلى الله عليه وآله» التي وصم بها افرادًا من مجال التحقير والازدراء إلى سياق المدح والثناء كما هو الحال في أبي هريرة الذي كان يستجدي الطعام من الناس عبر هرة كان يضعها في كُمّه الطويل ويصطحبها معه حيثما سار، وكتفسيرهم لدعاء رسول الله على معاوية (لا أشبع الله بطنه) بأنه من فضائل معاوية، فنفس هذا المنهج هو ما فعلوه مع وصمة (الحميراء) التي يتجلى لنا معناها في المعاجم والقواميس وأمثال العرب، ففي لسان العرب لابن منظور وتهذيب اللغة للأزهري عن الأصمعي عن بعض العرب قولهم: ”وشر النساء السويداء الممراض، وشرٌّ منها الحميراء المحياض“ وقد ورد ذلك في (البصائر والذخائر لأبي حيّان التوحيدي/ج75) و (ربيع الأبرار للزمخشري/ج1/ص461) ، فالحميراء هي المرأة المحياض التي يكون عندها كثرة حيض واستحاضة يتغيّر بسببها لون جلد رجليها إلى اللون الأحمر، ففي تلك الأزمنة لم تكن تتوفر وسائل للتحفظ عن دم الحيض والاستحاضة لقلة القطن، لا كما هو الحال في زماننا الحالي، فكان العرب يتقززون من ذلك ويتشائمون به، وقد قيّد رسول الله «صلى الله عليه وآله» هذا الوصف في بعض الروايات بحميراء الساقين في إشارة إلى نجاسة ساقيّ عائشة التي لم تكن تتحفظ عن النجاسة وهذا ما شكّل عقدة نفسية لعائشة تفسّر كثرة رواياتها المقززة والكاذبة على رسول الله – حاشاه – في موضوع مقاربته لها في حالة الحيض والاستحاضة.
وقد تنبّه شيخ المخالفين ابن القيّم الجوزية لهذا المعنى، فنفى كليةً أن كلمة ”الحميراء“ قد صدرت من رسول الله «صلى الله عليه وآله» في حق عائشة في كتابه (المنار المنيف في الصحيح والضعيف/ص60).
كما أن الشواهد التاريخية لصفة والد عائشة – أبي بكر– في مصادر القوم تؤكد أنه كان ”آدم اللون“ أي أنه كان أسود كالقير الأسود، وأن قبيلتها – بني تيْم– كانت مشهورة بالاسوداد إلى درجة أن الناس لم تكن تميّز بين سادتها وعبيدها لتشابههم في اللون ، والقبيلة نفسها معظمها كانت مستلحقة بعبيد من الحبشة فقال الشاعر: وأنّك لو رأيت تيّمًا وعبيدها .. قلت أيهم العبيدُ؟ ، كما كانت هذه الصفة ذاتها صفة أم عائشة وشقيقها أيضا، فكيف تكون عائشة بيضاء مشرّبة بحمرة؟
ثم تطرّق سماحته إلى إثارة هذا الداعية البكري شبهة ”أن القول بأن عائشة في النار يؤذي رسول الله لأن عائشة عرضه“ ، مجيبًا أننا لو سلّمنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يمتدح عائشة ووعد بأنها ستلحقه في الجنة، فالحال أنه فضلاً عن نفيه أن عائشة مؤمنة فأنه وضعَ شروطًا لذلك والشرائط مذكورة في مصادر أهل الخلاف وهي شرائط قد نقضتها عائشة فلذلك فهي الآن ليست عرضه فليس في طعننا فيها إيذاءًا للنبي صلى الله عليه وآله، كما أن الطعن في زوجتي نوح ولوط لا يعتبر طعنا في زوجيهما، ولو أردنا القفز على المباني والمبررات وإلزام هذا الداعية البكري بمنطقنا لقلنا: ”انظر إلى هذا الطعن في رسول الله صلى الله عليه وآله، أنهم يطعنون في عمّه أبو طالب“ فكما أنكم لم يثبت عندكم أن أبو طالب مؤمن فلا تقصدون بالطعن فيه الطعن في النبي فنحن كذلك لم يثبت عندنا أن عائشة مؤمنة ولا نقصد من الطعن فيها طعنًا وإيذاءًا لرسول الله صلى الله عليه وآله.
وأرجأ سماحته تتمة هذا المبحث إلى الحلقة الثانية من الرد على الضجة المفتعلة من أنصار عائشة، خاتمًا كلمته بالصلاة على محمد وآله الطيّبين الطاهرين.