استكمل سماحة الشيخ ياسر الحبيب حفظه الله في الحلقة التاسعة من سلسلة ردوده على الضجة المفتعلة من أنصار عائشة التي أعقبت الاحتفال المبارك بذكرى هلاك الحميراء وانتقالها إلى قعر جهنم، استكمل سماحته تعليقه على مقالة الكاتب سامي النصف في جريدة الأنباء الكويتية تحت عنوان "ياسر.. أتاك الرد فهل تتوقف؟" ، مستعرضا سماحته في البداية موجزا لما جاء في الرد على هذه المقالة في الحلقة السابقة، قبل أن ينتقل سماحته إلى جزئية أخرى أثارها الكاتب في المقالة ألا وهي قوله أن رسول الله صلى الله عليه وآله مات بين سحر ونحر عائشة!
داعيا سماحته النصف بكل رجاء إلى أن يبحث أكثر فيما يتصور أنه مسلّمات، كهذا التصوّر المغلوط الذي تصوّرهُ نتيجة لما تعلمه في المدارس أو لِما أتاه عبر التنشئة أو وصل إليه من خلال خطباء الجمعة الجهلة الذين يفشون هذه الأمور بترديدها كالببغاء على الناس لتصبح بمثابة المسلّمات بينما هي أمور لا حقيقة لها، متأملا سماحته من النصف أن يساعده ما عهَدهُ سماحته عنه من كونه مثقفا وفاهما وقادرا على تمييز الأمور ليتجاوز الاعتقاد بأن هذا الأمر المدّعى لعائشة حقيقة وليس خداعا وأكذوبة.
وأضاف سماحته مخاطبا النصف.. أنك لو بحثت في هذه القضية التي أرادت من ورائها عائشة أن تختلق لنفسها فضيلة أولاً وأن تنكر الوصية لعلي ثانيًا مع استخدامها في حديثها هذا تعبيرا وقحا عندما قالت أن رسول الله قد دعا بطست ليبول فيه، فأن أول الأمور التي تجعل كل منصف يشك في هذا الأمر هو أن من يقول ذلك هو عائشة وليس لدينا دليل يؤكد ذلك من مصدر آخر محايد.
أما الأمر الآخر الذي يدعو للتأمل في الموضوع هو وجود أحاديث أخرى ترويها طائفة أهل الخلاف تناقض حديث عائشة تقول فيها أن آخر الناس برسول الله عهدا كان أمير المؤمنين علي إذ مات رسول الله في حجر علي، وميزة هذه الأحاديث أنها ليست مروية عن علي فقط وإنما مروية عن أفراد آخرين من بينهم عمر بن الخطاب وعائشة نفسها.!
وبالموازنة نكتشف أن الإدعاء الثاني ترجح كفته على الأول إذ يسنده الدليل أكثر، ففيه قول علي وقول أم سلمة وقول ابن عباس وقول عمر بن الخطاب وقول عائشة بينما في الادعاء الأول قول عائشة وحدها، ومن جهة أخرى فأن دلائل الإدعاء الثاني واردة عند الشيعة ومخالفيهم على السواء.
ثم استعرض سماحته الروايات التي ترجّح الكفة الثانية، فكانت أولى الروايات المعروضة ما جاء في (المستدك على الصحيحين/ج3/ص138) و(مسند أحمد بن حنبل/ج6/ص300) عن أم سلمة بأن رسول الله قبض وهو مع علي يحدّثه ويناجيه.
وكانت الرواية الثانية ما جاء في (الطبقات الكبرى/ج2/ص263) عن الواقدي بسنده عن أبي غضفان عن ابن عباس الذي يقول أن رسول الله مات وهو مستند إلى صدر علي.
أما الرواية الثالثة التي عرضها الشيخ فقد كانت ما جاء في (الطبقات الكبرى/ج2/ص262) وفيها اعتراف عمر بن الخطاب بأن علي هو آخر من كان له عهدًا مع رسول الله؛ حينما سأله كعب الأحبار (لعنه الله) عن آخر ما نطق به رسول الله فأجابه "سل هذا" وأشار بيده إلى علي!.
وتابع سماحته استعراض روايات أخرى من نفس المصدر السابق جائت عن أبي عمر الشعبي الناصبي الذي شهد بأن رسول الله توفي في حجر علي؛ وجائت عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب؛ بالإضافة إلى ما جاء عن صاحب الشأن نفسه في نهج البلاغة وهو يفتخر بأن رسول الله قبض ورأسه على صدره.
أما قاصمة الظهر فهي الروايات المتضمنة إقرار عائشة بأن علي هو آخر من كان له عهدا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما ورد في (مسند أبو يعلى/ج10/ص125) و(المطالب العالية/ج12/ص400) و(تاريخ دمشق/ج3/ص15) وفي (تاريخ دمشق/ج42/ص393).
واستمر سماحته بقراءة المقال قبل أن يقف على إشكالات عديدة منها إدعاء الكاتب بأن علي بن أبي طالب أكرم عائشة بعد معركة الجمل، وهو الإشكال الذي فنـّده الشيخ في جلسات سابقة، بالإضافة إلى استنتاج الكاتب القاصر بأن عائشة لو كانت قاتلة الرسول لوجبَ على الإمام إقامة الحد عليها.
فكرر سماحته دعوته لسامي النصف إلى البحث والتحري والتحرر من القيود ثم الانغمار في المطالعة، مفندا سماحته في السياق أكذوبة أن وصي رسول الله قد ارسل رجلا اسمه القعقاع ليجلد إثنين من أهل العراق نالا من عائشة (لعنها الله) مائة جلدة!
حيث بيّن سماحته أن أصل هذه الأكذوبة يرجع إلى كتاب (تاريخ الطبري) لراويها سيف بن عمرو (الأموي الهوى) وهي مما لم يصح في سائر المصادر الأخرى وخصوصا ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.
كما أشار سماحته إلى أنه قد جاء في مصادر المخالفين أن رسول الله لم يقم الحد على عبد الله بن أبي بن سلول حينما قذف عائشة على مدعاهم؛ ولم يقم رسول الله الحد على خالد بن الوليد حينما قتل بسيفه مقتلة عظيمة من المسلمين في اليمن؛ كما أن رسول الله عفا عن أصحابه الذين أرادوا اغتياله بالنفر بناقته من العقبة في الرجوع من تبوك مع اتفاق جميع المسلمين في أن من يروم اغتيال النبي يكون حكمه القتل إلا أن رسول الله لم يجر عليهم حدا، ومن هنا فأن إقامة الحد من عدم إقامة الحد لا علاقة لها بثبوت الجريمة والواقعة، لأن الحد تترتب إقامته على ظروف معينة بألا يكون هناك مصلحة شرعية في إسقاط الحد.
مؤكدا سماحته أن كون عائشة قاتلة النبي هو حقيقة لا غبار عليها ويقام على هذه الحقيقة البرهان من كتب الطرفين الشيعي والمخالف، وتتلخص أدلتها في عدم دقة حبك الرواية القائلة بأن قتل رسول الله يرجع إلى ما قبل ثلات سنوات حينما تجرع السم في خيبر من إمرأة يهودية؛ و الرجوع إلى أئمة أهل البيت الذين صرحوا أن عائشة وحفصة قتلتا رسول الله بأمر من أبويهما؛ والاكتشاف بأن في مصادر الحديث لأهل الخلاف قرائن تدل على آلية تنفيذ الجريمة من بينها حديث اللدود الوارد في البخاري.
ثم عاد سماحته إلى قراءة ما تبقى من المقالة متوقفا على قول الكاتب أن القرآن الكريم برّأ عائشة من أكاذيب المنافق عبد الله بن أبي بن سلول في آية الإفك، ليرد الشيخ عليه: وأين في القرآن أن المبرّأة عائشة؟ إنما هو تفسيرك عن أسلافك أن المعني بآيات الإفك عائشة، أما حسب تفسيري وما تناقلته عن أسلافي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أن المعني بها السيدة ماريا عليها السلام فلا يمكنك أن تلزمني بقولك بتفسيرك وإلا فأنا سألزمك بتفسيري فلا نصل إلى نتيجة، أن ما نحتاجه هو أن نبحث في التفسيرين معًا ونرى أيهما أقرب إلى البرهان التام، ولو راجعت بإنصاف تكتشف أن المقذوفة ماريا عليها السلام لا عائشة.
وأضاف الكاتب أن المفسرين فسروا الخيانة الواردة في زوجتي نوح ولوط أنها خيانة العقيدة أي أنهما كانتا كافرتين؛ مما استلزم أن يرد عليه الشيخ بدعوته إلى ما قاله بعض عظماء مفسرو العامة في موضوع هذه الخيانة والذين من بينهم كمثال سريع ما قاله ابن الجوزي في تفسيره لقوله {أنه ليس من أهلك} في قضية ابن نوح حيث قال ابن القيم الجوزية: "واختلفوا في هذا الذي سأل فيه نوح على قولين، أحدهما أنه ابن نوح لصلبه قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك والجمهور، والثاني أنه ولد على فراشه لغير رشدة ولم يك ابنه، روى ابن الانباري بإسناده عن الحسن (البصري) أنه قال: لم يك ابنه أنما إمرأته فجرت، وعن الشعبي قال: لم يك ابنه أن إمرأته خانته، وعن مجاهد نحو ذلك، وقال بن جريج: ناداه نوح وهو يحسب أنه ابنه وكان ولد على فراشه."
داعيا سماحته الكاتب إلى أن لا يطلق الكلام على عواهنه فيقول أن المفسرين أجمعوا على أن الخيانة في العقيدة.
وانتهى الكاتب في مقاله إلى أربع نقاط علّق سماحة الشيخ الحبيب على إثنين منها في هذه الجلسة قبل أن يدركه الوقت فيؤجل الرد على النقطتين الأخيرتين إلى الجلسة المقبلة.
وكانت أولى تلك النقاط هي استنتاج الكاتب المغلوط أن الشيخ الحبيب يكفـّر كل أهل البدعة والجماعة ويعتبرهم جميعا نواصب وكافرين، فردّ عليه سماحته.. "مع احترامي لك، أنك لم تفهم لأن البحث كان فقهيا".
ثم أجمل سماحته خلاصة البحث بأن عنوان النصب والكفر يصدق على أهل الطائفة البكرية في الآخرة إلا أنهم في الدنيا ففي حكم المسلمين وهم محقوني الدم ومصوني العرض ومحفوظي المال، إلا النواصب بالفعل منهم أي الذين يخرج منهم فعل العداء والنصب تجاه أئمة أهل البيت عليهم السلام.
وهذا الرأي نفسه صرّح به أعلام الطائفة البكرية المعاصرين من المحترمين أو المسيّسين تجاه الشيعة فقالوا أن الرافضة كفرة في الآخرة.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ستفترق أمتي إلى 73 فرقة كلها في النار إلا واحدة" فلا يمكن أن يدخل إثنين من فرقتين مختلفتين إلى الجنة ولذا لابد أن تكفـّر كل فرقة الأخرى (في الآخرة) ويجمع بينهم التعايش السلمي في الدنيا ويبقى الاختلاف في إطار الجدل الكلامي.
أما النقطة الثانية التي خلص إليها الكاتب أن دعوة الشيخ الحبيب لإنشاء دولة البحرين الكبرى التي تضم لها دولة الكويت هي دعوة تدل على انتفاء الوطنية لدى الشيخ الحبيب.
من جانبه علق الشيخ على هذه النقطة بأن تلك الدعوة تأتي بأن يكون الأمر طوعيًا لا بالعنف، وعليه تتوحد شعوب الساحل الشرقي للخليج ذات الثقافة الواحدة وترفع أمرها إلى الحكام – إن اجتمع رأي الأغلبية على ذلك – فتطلب إجراء استفتاء عن طريق الأمم المتحدة يقضي بتقرير حق المصير لتوحدهم في دولة واحدة تحترم فيها الأقليات وفي الوحدة قوة.
وفي هذه اللحظة انتهى وقت الجلسة لسماحة الشيخ الحبيب فأرجأ سماحته الرد على النقطتين الأخيرتين إلى الحلقة القادمة بمشيئة الله تعالى.