استكمالا للرد على الداعية البكري محمد عبد الملك الزغبي عاد سماحة الشيخ ياسر الحبيب في الجلسة الخامسة عشر من (الرد على الضجة المفتعلة من أنصار عائشة) ليفند الإشكال على شبهة تعريض المعصوم نفسه للقتل مع إطلاعه على الغيب بتقديم سماحته حديثين واردين عن الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم، متبعًا إياهما بالتأكيد على إطلاع رسول الله صلى الله عليه وآله على الغيب وتسليمه بقضاء الله وقدره، لا من باب الجبر وإنما من باب الاختيار والامتثال لإرادة الله تعالى، ليمضي بذلك شهيدا فلا يتفوّق عليه غيره من الأنبياء في هذه الخصلة؛ مشددا سماحته على أن (أو) في الآية الكريمة {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} تفيد التأكيد بالأمر الثاني.
ونقض حفظه الله الكلام التافه الذي قاله الزغبي بإدعاءه أن النبي قد مضغ مضغة من تلك الشاة المسمومة، بإكمال سماحته مزاعم هذه الطائفة المبتدعة بأن النبي قد مات لاحقا بسبب هذا السم، منوها بأن هذا القول بحد ذاته أحد أسباب ضحك النصارى على هذا الدين وترويجهم بأن هذا النبي هو نبي كاذب والعياذ بالله إذ أنها ليست بمعجزة أن يقضم أحد قضمة من شاة مسمومة فيحس بالسم ثم يقول إنها تخبره بأنها مسمومة!؛ منبهًا سماحته إلى أن الحادثة الحقيقية تفيد بأن النبي صلى الله عليه وآله لم يتناول من تلك الشاة شيئا، وقال بأنها مسمومة بمجرد أن وضعوا الطعام وقد أكل أحد الذين لا يحترمون أنفسهم منها سابقا النبي فمات.
وأضاف سماحته.. أن القول بأن النبي أكل من تلك الشاة جاء للتغطية على جريمة عائشة بسمّ النبي الأعظم إذ إن زينب بنت الحارث أجابت بجواب رصين مضمونه أنها أرادت أن تعلم بأن هذا نبي صادق أم سلطان من السلاطين فإن كان سلطانا أراحت الناس منه وإن كان نبيا فسينجيه الله، فعفا رسول الله عنها وكانت هذه الحادثة قبل ثلاث سنوات من رحيل النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وقد أسلمت المرأة لذلك؛ مردفًا سماحته.. أننا لو سلّمنا بقول البكريين الأغبياء بأن النبي أكل من تلك الشاة ثم بسبب ذلك استشهد بعد ثلاث سنوات، فكيف نفسّر عدم ظهور حالة التدهور الصحي للنبي طوال هذه السنوات؟
وأضاف سماحته أيضا.. أن تدهور الحالة الصحية للنبي صلى الله عليه وآله في آخر أيام حياته كاشف عن وقوع شيء لهذا النبي في تلك الأيام، وتفسّر ذلك روايات أهل البيت عليهم السلام وأحاديث اللدود التي تبيّن أن هنالك مادة غريبة سقيها النبي صلى الله عليه وآله مع أنه قد نهاهم عن أن يسقوها له ولذا لمّا أفاق النبي أمرَ أن تسقين قاتلاته من هذه المادة فامتنعن عن أن يسقين بها، واتهمت عائشة وصويحباتها العباس بن عبد المطلب بوضع هذه المادة في فم النبي صلى الله عليه وآله وكذبهن النبي.
وأفاد حفظه الله أن التسليم بالروايات القائلة بأن رسول الله صلى الله عليه وآله قد استشهد بسبب سم زينب بنت الحارث يعني إبطال نبوة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله، إذ إنها حددت بوفاة النبي أو نجاته من سمّها كذب نبوته في الحالة الأولى وصدقها في الحالة الثانية؛ مؤكدًا سماحته أن القول باستشهاد النبي يعضده قول سعد بن أبي وقاص بأنه مستعد إلى أن يحلف تسع مرات على أن رسول الله مضى مقتولا خيرا له بأن يحلف واحدة بأن رسول الله لم يُقتل؛ كما أن وجهة النظر الشيعية هي الأقرب للتصديق فيما لو تم عرض القصتين على أي محقق جنائي منصف.
وأفاد الشيخ أن الزغبي عرج بعد ذلك إلى نقطة أخرى قال فيها أن النبي اختار في آخر يوم من حياته أن يكون في بيت عائشة حبًا لها بدلاً من أن يكون في بيت ميمونة ثم جاء أبوبكر وحل التنازع حول الموضع الذي يدفن فيه رسول الله فقال يدفن الأنبياء حيث ماتوا فدفن النبي في غرفة عائشة، وهنا توقف سماحته ليعلق بأن هذا القول من موضوعات عائشة إذ هي التي روته وهو من جملة أساطيرها الكثيرة التي لا يمكن التسليم بها، وينقض هذا القول روايات أخرى معارضة ترويها عائشة نفسها ويرويها عنها جميع بن عمير بأن رسول الله صلى الله عليه وآله مات في حِجر علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وعلي هو الذي حلّ الاختلاف حول موضع دفن رسول الله حين قال: أن أحب البقاع إلى الله مكان قبض فيه نبيه. (مسند أبو يعلى/ج10/ص125)
ونصح سماحته أن يقوم أحد طلبة العلم أو المحققين بتأليف كتاب تحت عنوان (تناقضات عائشة) يجمع فيه روايات عائشة المتناقضة ويشرح فيها الأحاديث ويبين أسنادها وما شابه، مؤكدا حفظه الله أن الكتاب قد يصل إلى خمسمائة صفحة ويكون كتابا جيدا لأنه سوف يوضح أن عائشة كذابة تختلق الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وآله وذلك ببيان التضاد في رواياتها.
ووصل الحديث في منتصف الجلسة إلى معراج الأراجوز محمد عبد الملك الزغبي إلى ارسال كلامه إرسال المسلّمات بأن النبي دُفِن في حجرة عائشة، وطرحه هذا التساؤل بسخرية: كيف أن الله يختار لنبيّه أن يُدفن في دار التي دسّت له السم؟
فعمَدَ سماحة الشيخ الحبيب إلى تفنيد أكذوبة (أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد دُفِن في حجرة عائشة) بطرح علمي مفصّل يُثبت فيه أن النبي قد دُفِن في الحجرة النبوية التي كان يستقبل بها صلى الله عليه وآله وسلم الوفود، وهي الحجرة التي كانت داخل المسجد ولها جدار قصير يرى بسبب قصره المصلين رسول الله وهو واقف فيها يصلي.
ومختصر الردود تتلخص في هذه النقاط:
•أنه ليس من المعقول أن تكون هذه حجرة عائشة لأنها كانت بالأساس مكشوفة للناظرين.
•حُجر أزواج النبي كلها كانت خارج المسجد بجهة الشمال وكان يربطها ممر صغير مع الحجرة النبوية داخل المسجد، ولم يكن في المسجد النبوي حُجَر سوى هذه الحجرة وحجرة علي وفاطمة لأنهما طاهرين مطهرين بخلاف أزواج النبي اللاتي كن يحضن ويجنبن.
•تصريح عائشة بأنها لم تعلم بدفن رسول الله إلا في ليلة الأربعاء. (مسند أحمد بن حمبل/ ج6/ ص62)
• قدوم محمد بن أبي فديك إلى المسجد النبوي سائلا محمد بن هلال عن مكان حجرة عائشة بين حُجَر أزواج النبي التي رآها خارج المسجد من جريد مستورة بمسوح الشعر، وجواب محمد بن هلال له بأن بيت عائشة كان بابه من وجهة الشام. (الأدب المفرد للبخاري/ ص168(
•تصريح ابن عمر بن الخطاب بأنه ليس في المسجد النبوي بيت غير بيت علي عليه السلام. (فتح الباري في شرح صحيح البخاري/ ج11/ص3(
•اعتراف النووي بأن حجرة عائشة كانت خارج المسجد النبوي وعندما وقع الاضطرار لهدم حجر أزواج النبي لتوسعة المسجد النبوي الشريف تم هدمها مع جملة ما تم هدمه. (شرح صحيح مسلم /ج5 /ص14(
وفي ذيل الجلسة تطرق سماحته إلى موضوع آخر هو اظهار الزغبي نفسه بأنه واقف على إشكال الشيخ على عائشة في الاحتفال المبارك بهلاكها حين أدانها باتهامها رسول الله صلى الله عليه وآله بأنه قد سُحِر من اليهود، وبأنها بذلك تضاهي قول المشركين فتكون ملحدة كافرة تستحق دخول النار؛ حيث اتهم الزغبي الشيخ الحبيب «حفظه الله» بأنه جاهل بما في كتب المخالفين وأنه لم يفهم الرواية حول سحر النبي، زاعما أن هذا السحر أصاب النبي في بدنه ولم يصبه في عقله.
من جهته طلب سماحته من الزغبي أن يصحح معلوماته، متحديا إياه بأنه أعلم منه بما في كتبه بل وأعلم من مائة من أمثاله من أكابر مشايخ طائفة أهل الخلاف بما في كتبهم كلها؛ داعيا إياه إلى قول هذا الكلام ذاته عن علماء طائفته الذين توصلوا إلى النتيجة نفسها إلا أنهم سعوا إلى إسقاط هذه الروايات، مذكرًا إياه بما ساقه من براهين في الاحتفال عند بيانه أقوال إثنين من كبار مشايخ الفرقة البكرية هما أبوبكر الجصاص وأبوبكر الأصم الذين صرّحا أن روايات عائشة تفيد بأن النبي قد سحر في عقله لا في بدنه.
وقبيل الختام أضاف سماحته قولا ثالثا للقاضي عياض، وأتى لاستعراض قول رابع لمحمد عبده في هذا الشأن إلا أن الوقت لم يسعف سماحته فأنهى الجلسة بالصلاة على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين، محيلا تتمة الرد إلى الجلسة اللاحقة بمشيئة الله تعالى وحفظه.