بحكم موقعي؛ فإنه كثيرا ما يأتيني بعض المؤمنين من المستضعفين طالبين مد يد العون والمساعدة لهم، ونجدتهم مما يعانون منه من مشاكل وأزمات عصيبة. فذاك رجل هرم يحتاج إلى علاج سريع من مرض خبيث ولا يملك قيمته، وهو يرى نفسه يموت ببطئ ولا من معين! وذاك آخر تراكمت عليه الديون إذ يعيل أسرة كبيرة لا يكفيه راتبه المحدود حتى لدفع إيجار مسكنها فقادته ديونه إلى السجن! وتلك امرأة قضى زوجها نحبه ولم تعد قادرة على الوفاء بمتطلبات أبنائها المعيشية حتى اضطرت أن تستجدي من هذا وذاك ثم هي الآن تسكن في خربة لا كهرباء فيها ولا ماء! وذلك طفل صغير أتى به ذووه مستصرخين لإنقاذه من مرض عضال يتطلب علاجا مكلفا في الخارج لا يملكونه!
ولا أستطيع ولا أتمكن من أن أذكر النماذج التي مرّت عليّ، لأناس يكسرون القلب والخاطر. ولا أنسى ذلك الرجل الذي استوقفني عند باب الهيئة ضاجا بالبكاء وهو يتوسّل بي أن أسعفه بمبلغ ضئيل لا يتجاوز أربعة وثلاثين دينارا فقط من أجل أن يكمل دفع رسوم علاج ابنته في المستشفى، فقد خُيِّل لي - مما رأيته من حال الرجل - أنه على مقربة من الإصابة بسكتة أو جلطة أو ما أشبه ذلك، إذ كان قلبه ينفطر على فلذة كبده.. ولا يُلام، فهل هناك أعز على قلوبنا من أبنائنا وبناتنا؟ بل إنّا قد نتحمّل ما يمكن أن يصيبنا ولكننا لا نتحمّل ما يمكن أن يصيب أنجالنا.
ورغم أن هؤلاء البؤساء الضعفاء يحمّلونني همّا فوق همّي؛ فهم لا يعلمون أني عندما أستمع إلى مآسيهم تكاد روحي تختنق، بيد أنني كنت أعمل ما في وسعي لتهدئة روعاتهم وبث الطمأنينة في نفوسهم، ثم العمل على مساعدتهم قدر استطاعتي. وفي كثير من الأحيان كنت أفشل ولا أستطيع إسعافهم، فأنّى لليد أكثر من هذا وهي أقصر من بلوغ المرام؟! وزد على ذلك أني لست متفرغا أو لأقل أني لست موفقا لأن أصرف طاقتي كلها في إسعاف المحتاجين، فما هو واقع عليّ من مسؤوليات يحبسني عن أداء هذه الوظيفة، وما يحلّ بساحتي من ملمّات دوري الشرعي لا يتركني أحيانا ألتقط أنفاسي. وأنا مع ذلك أعترف بالتقصير، وأسأل الله العفو وأرجو فضله.
ولربما كان مما يدهشني، أنه إلى جانب هؤلاء المستضعفين الذين جار عليهم الزمان؛ ثمة آخرين لا يشكون من نقص في أموالهم أو سقم في أبدانهم، وهم مع ذلك يراجعوني مهمومين مكروبين! ليس كربهم من قبيل كرب أولئك، بل هو أشدّ وأكثر استعصاء على الحل! فإن مشاكل أولئك يمكن حلّها غالبا بتوفير المساعدة المالية حتى يجتازوا مصاعبهم، أما هؤلاء فالمال لا ينفع في حلّ معضلاتهم شيئا. فهذا شاب غرق في أوحال الفساد حتى لم يكتفِ بالإجرام بحق نفسه بل أجرم حتى بحق أهله وعرضه وشرفه وهو اليوم بعد صحوته لا يطيق نفسه ولا تحمله أرض ولا يعرف كيف يتغلب على تأنيب ضميره ولا كيف يواجه الناس من حوله ولا كيف يلقى غدا ربّه! وهذا آخر أوقعته حداثة سنه في طيش جعله يتسبب في قتل والدته لرعونة قيادته لسيارته! وهذان زوجان ما عادا يتحمّلان بعضهما وهما يرومان الانفصال وتشريد الأطفال لأسباب ليست إلا تافهة! وتلك امرأة حُرِمت من نعمة الإنجاب ومازالت تتوسل وتنذر دون أن تُجاب وخوفها أن يفكّر بعلها بالزواج من أخرى! وتلك فتاة تلوّثت سمعتها بالباطل لحسد ونميمة من النمّامات في بعض المجالس الدينية فأضحت تكره الدين كلّه بسبب ما لاقته من تلك النسوة! وذاك أب مسن أضحى وحيدا فريدا بعدما هجره أبناؤه وأحفاده وعقّوه فلا أحد يكترث إن عاش أو مات! وذاك رجل اكتشف خيانة امرأته فطلّقها وهو مع ذلك لا يعرف إن كان ابنه له أم لغيره فبات معذّبا كل يوم وليلة ويكتم آهاته في صدره! وهكذا النماذج المأساوية تترى.
ولا أنسى أيضا ذلك الرجل المرموق في شخصيته، المستقر في عائلته، الناجح في وظيفته، ذا الدخل العالي، ولكنه مع ذلك جاءنا وجلس، ثم ما لبث أن أجهش بالبكاء دون سبب! ومهما حاولنا العثور على سبب ما يجعله حزينا كئيبا فلم نجد، حتى أنه هو بنفسه لا يعرف لماذا هو يشعر بكل هذه الكآبة في حياته وهو لا يعاني من أمر خاص! بل كل ما يقوله عن نفسه: "أنا غير مرتاح في حياتي.. وما أعرف ليش.. ساعدوني"!
وبحكم دوري، فإني لا أملك لهؤلاء إلا أن أداويهم بما ترحّم وتكرّم وأفاض به علينا أئمتنا المعصومين من أهل البيت الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وقد لمست حقا ومن خلال تجاربي أن هؤلاء وأولئك - أعني كل الذين يعانون من المشاكل أيا كان نوعها - تطيب نفوسهم عند ذكر محمد وآل محمد، وتنجبر خواطرهم عند استذكار تضحياتهم (عليهم السلام) من أجلنا، وتعلو هممهم عند استرجاع بسالتهم وشجاعتهم. فإن محمدا وآل محمد (عليهم السلام) أعظم أسوة، وهم علاج كل مريض، وأمل كل محتاج. أسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يحرمنا من ألطافهم في الدنيا وشفاعتهم في الآخرة، فإنّا لولاهم لكنّا نسيا منسيا.
وإن مما هو أشهر من نار على علم، أن سيدنا ومولانا قمر العشيرة أبا الفضل العباس (صلوات الله وسلامه عليه) هو باب الحوائج، الرحيم العطوف الحنون، الذي لم يتأخر عن نجدة من استغاث به قائلا: "أنخاك"! ولم يُعرض عن تلبية من استنجد به قائلا: "دخيلك"! فهو قبلة الآمال ومحطّ الأنظار، إليه يتوجّه السائلون، وعلى أعتابه يسجد المؤمنون..
ولكن لكل شيء "شرطا وشروطا" بلاها لا يتحقق. فليس كل مَن قال: "لا إله إلا الله" يكون قد دخل حصن الله - ومن دخل حصن الله أمِن من عذابه - بل لابد له من معرفة شرط هذه العبارة وشروطها، وقد قال مولانا الرضا عليه السلام: ".. وأنا من شروطها"، فلا أمان لمن لم يعرف حق الولاية، ولم يدن الله بإمامة آل محمد عليهم السلام.
وعلى هذا؛ فليس كل من قصد باب الحوائج العباس (عليه السلام) يكون مقضيّ الحاجة، فإنه إنْ لم يستوفِ الشرائط، كالإخلاص في النية، وصدق العمل، والاجتناب عن المحرّمات، وما إليها من أمور، لا يحظى بالكرامة، ولا يُحبى بالشفاعة، ولا يحصل على المراد.
وإني موجزٌ كلمتي فأقول: إذا خلت من الرحمة قلوب الناس.. فكيف يرحمهم أبو الفضل العباس؟!
إن مما أعرفه تمام المعرفة، وأحس به بكل وجودي، أن التحوّلات التي طرأت على نفوس بعض البشر في هذا الزمان، هي التي أدارت عنهم وجه أبي الفضل العباس عليه السلام، فمهما يتوسلون به ويستغيثون لحل عقد مكارههم وجلاء مصائبهم وأزماتهم من التي لا يحلّها ولا يجليها سواه أرواحنا فداه؛ فإنهم لا يحصلون على عون أو نجدة أو حتى جواب! مع ما عُرِف عنه (سلام الله عليه) من أنه صاحب الغيرة والمروءة والكرم، ومع أن الذين يتوجهّون إليه يعلنون ولاءهم له!
غير أن هؤلاء عليهم أن يسألوا أنفسهم قبل أن يتوجهوا إلى حضرة العباس (عليه السلام) ويطلبوا رحمته وعطفه وحنانه؛ هل أنهم رحموا غيرهم عندما استنجدوا بهم؟! هل أنهم عطفوا على غيرهم عندما استعطفوهم؟! هل أنهم حنّوا على غيرهم عندما وجدوهم وهم تتلاطمهم أمواج المحن وأنواع البلايا؟!
أين هؤلاء من "مَثَل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى"؟! أين هؤلاء من "قضاء حاجة أخيك المؤمن خير من عامة الصلاة والصيام"؟! أين هؤلاء من "ليس منا من بات شبعان وأخوه المؤمن جائع"؟! إلى غيرها من الروايات والتوصيات العظيمة التي أوصانا بها نبينا وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) والتي تدعونا لأن نتراحم ونتواد ونشعر بآلام بعضنا بعضا على الأقل.. حقا؛ هل نحن نشعر بآلام إخواننا المؤمنين من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) أم أننا لاهون في دنيانا وقد صمينا آذاننا عن سماع آهاتهم وحسراتهم؟!
إن مما يحزن الفؤاد بل إنه من المخجل حقا أن تجد بعضا من الشيعة اليوم قد صرفوا أموالا طائلة على بناء وتوسعة بيوتهم الفخمة فوق حاجتهم الفعلية وقد زيّنوها بأفخر أنواع الكسوة ليس إلا من أجل الرياء والسمعة وحتى يقول عنهم الناس أنهم "أبناء عز"! بينما إذا أتاهم آتٍ طالبا معونتهم لجبر كسيرته يصعّرون خدودهم في وجهه! وإني لأمثال هؤلاء أنذرهم بتحذير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي لا ينطق عن الهوى: "من بنى بنيانا رياء وسمعة؛ حمله يوم القيامة إلى سبع أرضين! ثم يطوّقه نارا توقد في عنقه! ثم يُرمى به في النار! فقلنا: يا رسول الله.. كيف يبني رياء وسمعة؟ قال: يبني فضلا على ما يكفيه أو يبني مباهاة"!!
ولا أقول هذا إلا من واقع تجربة، أنني كثيرا ما توجّهت إلى بعض الميسورين من الناس، أو الأثرياء، وعرضت عليهم مساعدة المحرومين والمستضعفين، أو الإسهام في مشروع خيري في سبيل الله تعالى، ولم أجد من هؤلاء إلا التأفف والتبرّم! وهم مَن وصفهم مولانا الصادق (عليه السلام) بالصعاليك! ومَن أوضح أن الله تعالى يبغضهم ويكرههم! إذ قال عليه السلام: "إن الله عز وجل يبغض الغني الظلوم، والشيخ الفاجر، والصعلوك المختال. ثم قال: الصعلوك المختال هو الذي لا يتقرّب إلى الله عز وجل بشيء من ماله"!
هؤلاء عندما تقع عليهم مصيبة من المصائب، ولا يجدون لها حلا عند أهل الدنيا، يتوجهون إلى أبي الفضل العباس (عليه السلام) راجين منه الحل، ولكنهم مع هذا يرجعون بخفّي حنين! وبعضهم يتجرّأ على المولى أبي الفضل (عليه السلام) ويظن أن ما قيل عن لهفته للمكروب مبالغ فيه! نستغفر الله تعالى من هذا القول. بل الحق أن هؤلاء لعدم إحساسهم بآلام الناس، ولانعدام مساعدتهم لهم، ولغياب مشاركتهم في بذل أموالهم في سبيل الله، فإنهم قد باءوا بالخسارة وفشلوا في الحصول على الكرامة والغوث. فإن من لا يرحم الناس، لا يرحمه الله سبحانه وتعالى.
وهذا هو أحد أهم الأسباب التي جعلت الكرامات تتناقص في زماننا هذا، ففي السابق كان أهل البيت (عليهم السلام) ومولانا العباس (عليه السلام) يمنّون على شيعتهم ببحر من الكرامات، ولم تكن تمر بضعة أيام حتى يسمع الموالون أن هذا المريض الميئوس من شفائه قد برئ، وأن هذا الفقير قد استغنى، وأن هذا المكروب قد انفرج كربه، وأن هذا المهموم قد زال همّه. بل لقد كانت الكرامات اعتيادية، إلا ما كان منها غريبا مدهشا في حجمه ومداه، كإحياء ميّت لأم مفجوعة، وما شاكل ذلك، مما نجده مسطّرا في كتب الثقات، ورآه الناس رؤيا العين. أما اليوم فإن الكرامات قليل وقوعها، واستجابة أهل البيت (عليهم السلام) لنا ليست كالسابق، وما هذا إلا للخلل الذي فينا، والذي يحرمنا من بركاتهم وألطافهم وإمداداتهم.
فهذه دعوة لمراجعة النفس، والتفكير جديا في إغاثة المؤمنين، والذبّ عن شريعة سيد المرسلين، عسى أن يرحمنا ربنا، وأن ننال رضى سيدنا قمر العشيرة، فلا نُحرم من حنانه وعطفه، صلوات الله وسلامه عليه.