كيف نؤرخ الثاني من شوال؟ هل نصفه بيوم فاجعة الرحيل؛ أم ترانا نكون أكثر اعتقادا فنصفه بيوم التحرر والانعتاق؟!
لقد مضى عام على ذلك اليوم الذي أبكى العالم الشيعي وأحدث فجوة وفراغا لم يتجرأ أحد بأن يدعي إمكان سدهما وملئهما. وقد أرّخوه بأنه يوم رحيل الإمام المجدد الشيرازي.. يوم الخسارة العظمى والفاجعة الكبرى بفقد عملاق عصره وأعجوبة زمانه، ذلك الفقيه الرباني الزاهد المعطاء المتفاني في الله وأوليائه عليهم الصلاة والسلام.
بيد أننا إذا أردنا أن نكون أكثر اعتقادا وأعمق وعيا واستيعابا لمعادلتي: الدنيا والآخرة؛ والروح والجسد، فيتوجب علينا أن نعبّر عن ذلك اليوم بأنه يوم تحرر إمام المظلومين وانعتاقه وخلاصه من السجن الذي كان يعيش فيه! بل إنه - وبكل ثقة نقول - يوم الميلاد الحقيقي للإمام المجدد الشيرازي!
كلنا عرف عن مرجع الأمة الشيرازي أنه البحر الروحي الذي لا حدود لتطلعاته وآماله، وقد كان تنفيذ تلك التطلعات مقيّدا بأغلال ودّ الإمام الراحل لو يتمكن من الخلاص منها في أسرع وقت. إنها أغلال عالم المادة الضيّق، ذلك الجسد المحدود، وهذه الدنيا السجن لكل مؤمن كما عبّر إمامنا المجتبى صلوات الله عليه.
كان الإمام المظلوم الراحل يتوق إلى أن يخرج من ذلك السجن إلى آفاق رحبة أكبر، كان يتمنى لو يستطيع أن يتخلص من هذا الثقل البدني الذي حجّم طاقة روحه القدسية الهائلة. وجاء يوم الثاني من شوّال من العام الفائت، ليقدّم إلى الشيرازي العظيم تلك الفرصة المنتظرة، فتحرر الإمام من سجنه، وارتفع وعلا، إلى عالم الروح والملكوت.. إلى عالم تختلف موازينه وقوانينه عن عالمنا الدنيوي الصغير السخيف البائس!
هناك.. في ذلك العالم الذي يعيش فيه الإمام الشيرازي الآن، ليس هنالك حواجز أو قيود أو حدود كالتي كانت تعيق تحركه في الدنيا، وليس هنالك إرهاب أو تنكيل أو تهديد أو "إقامة جبرية" كالتي كان يعاني منها في هذا العالم. الآن.. انتصر الإمام الشيرازي على سجّانيه ومناوئيه، فلم يعد يعاني من أحقاد الحاقدين، ولا من حسد الحاسدين، ولا من نميمة النمامين!
يحيا الإمام الشيرازي الآن في فضاء قدسي لا يرى فيه إلا جده رسول الله وأبيه أمير المؤمنين وأمه فاطمة الزهراء والطيبين الطاهرين من آلهم أشرف خلق الله أجمعين عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام. وهو إذ ذاك تخلّص من كل الذين آذوه واعترضوا طريقه، والأهم أن طاقته الروحية قد انفكت عن القيود المادية الفيزيائية التي كانت تمنع تدفقها بالحجم الذي كان يتمناه.
ونتيجة لذلك؛ فإنه ليس بمستغرب أن يكون الإمام الشيرازي الآن مستبشرا مرتاحا راضيا مرضيا يمتلئ قوة وحيوية روحية جبارة في الوقت الذي يبكي على فقده الآخرون! وليس بمستغرب أن يظهر في منام تلك المؤمنة الصالحة التي لم تتوقف دموعها عن الهدير ليلتها ليقول لها: "لماذا تبكون علي؟ لقد كنت في الدنيا مقيدا سجينا.. وأصبحت الآن حرا طليقا"!
بالطبع يحق لنا أن نبكيه ونرثيه؛ ولكن.. "أن نبكي على أنفسنا أجدى من أن نبكي عليه، وأن نرثي حالنا أولى من أن نرثيه، فهو الحي.. ونحن الأموات"!
هل نظن أن إمام المظلومين الذي كان "كالبركان في نشاطه.. بل إن البركان ليتصاغر أمام عظمة نشاطه" يسمح لنفسه اليوم؛ وفي ذلك العالم الحر اللامحدود الذي كان ينتظر أن يلج فيه بفارغ الصبر؛ أن يخمد ويسكن ويهدأ ويتوقف عن العمل الجبّار الذي كان يقوم به؟! كلا.. لم يكن هذا من ديدن الشيرازي المقدس الذي كان يعتبر في قرارة نفسه أن تضييع أقل فرصة يمكن استثمارها في سبيل الله هو ضرب من ضروب الكفر!
ولذا فمازال الإمام الشيرازي مستمرا في رسالته وأعماله وجهوده إلى الحين الذي تتحقق فيه أمنيته الكبرى: قيام دولة القائم من آل محمد (صلوات الله عليهم) على الأرض..
هو مستمر بروحه.. روح المجدد؛ التي مازالت تعمل من موقعها العلوي المشرف على كل ما دونه. إنه يشعر بآلام المجاهدين الذين تركهم بعده، والذين يشعرون بحضور روحه بينهم تسديدا وتوجيها، فلا يتوانى عن التشفع لهم عند الله تعالى وعند أوليائه الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين.
هو حاضر بيننا لأنه مجدد الروح، الذي زرع بذور الإيمان والإخلاص والتفاني في نفوس كل من عرفوه وقلّدوه واتبعوه، فأعادهم إلى ربوع التقوى والولاء المطلق لأهل البيت عليهم الصلاة والسلام. فكلنا.. حتى الذين لم يتمكنوا من اللقاء به؛ أو الذين كانوا على بعد مسافة عنه؛ يدينون له بالفضل، لأنه أحياهم من جديد في نفسياتهم وروحياتهم.
وهل لأحد اليوم أن لا يقر بفضل هذا الفقيه الرباني (قدس الله نفسه الزكية) في إحداث صحوة دينية شيعية رسمت معالم تاريخ إمامي وضّاء جديد، كان هو نقطة انطلاقه من كربلاء المقدسة، ومازالت إشعاعاته مستمرة وستستمر بفضل الله بألوف الفقهاء والمجتهدين والعلماء والخطباء والمفكرين والمجاهدين والتربويين والناشطين الذين ملئوا الدنيا بإنجازاتهم، وسيحققون - مع وجود روحه بينهم - آمالهم بإذن الله تعالى وعونه.
الإمام المجدد اليوم، مازال يعمل من موقعه في العالم الذي يعلونا، وهو يتابع ويراقب ما يحصل في عالمنا، ويطلب ويتوسل من أجلنا، وينتظر منا أن نكمل المسيرة التي أرسى خطواتها بكفاحه وجهاده وعطائه اللامتناهي. إن روحه تظل تشملنا بالرعاية الأبوية كما كان في دنيانا، وهو اليوم فرح أشد الفرح لأن أحدا لا يستطيع منعه من التجوّل في أرجاء العالم، فيمدنا ببركته، ويقينا بحمايته، ويشفع لنا بمقامه. ولعل ذلك هو السر في ما نلمسه الآن بعد رحيله من تزايد النشاطات الدينية ودوران عجلتها بسرعة أعلى، حتى في محيط البيت المرجعي وعلى صعيد التقليد المتزايد والمتوسع يوما بعد يوم.. ذلك لأن ثمة شفيعا لنا قد كسبناه عندهم عليهم السلام، في ذلك العالم العلوي!
وبقي علينا أن نعمل اليوم كما كان يرجو منا، وأن نحقق رسالته العظيمة، وأن نعجّل ونمهد في ظهور مولانا صاحب العصر أرواحنا وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء.
هنيئا لك يا ابتاه.. وهنيئا لنا بك؛ أيا روح المجدد.. أي مجدد الروح!