هذا الوسام العظيم، وهذا الشرف البهي، لا يتأتى لواحدٍ لا يريد أن يمر بسلسلة من المعاناة والخطوب، ولا يريد أن يستكثر من التضحية ويستقلل من النعيم، ولا يريد أن يتجاوز رغائب نفسه وينصرف إلى رغبة الله (جل وعلا) فيه.
إن وسام وشرف "خدام المهدي عليه السلام" لا يُمنح - بحق - إلا لمن أرضى سيده ومولاه، وخالف مناه، واعتبر دنياه سجنا يتطلع إلى الخروج منه في أقرب حين وفرصة. وذلك لا ينبغي أن يكون شعارا إنشائيا، أو مزايدة على النفس، بل ينبغي أن يكون طبيعة حاكمة، وواقعا حقيقيا، عند كل من يتمنى أن يحظى بموقع قريب من الناحية المقدسة ومقام مولانا بقية الله الأعظم صلوات الله وسلامه عليه.
أما أن ينصرف الخادم إلى العمل التبليغي البحت، ويظن أنه بنشاطه وإنجازه فقط فإنه سيرتقي صوب الناحية، فذلك اشتباه قد وقع فيه. وفي حيننا هذا؛ فإن كثيرا من العاملين قد وقعوا فيه، فتراهم اهتموا - إلى قَدَرٍ - بالنشاطات الحركية والعمل الميداني، بيد أنهم نسوا أن يتخلوا عما يحتفظون به من متعلقات الدنيا، مما يحسبون أنه ضروري ولازم، ولكنه في واقع الحال كمالي وزائل، يمكن الاستغناء عنه ونبذه إلى أهل الدنيا والخاسرين أعمالا.
تلك التطليقات الثلاث للدنيا التي نطق بها مولى الموحدين أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) يجب أن يرن صداها في آذان الخدّام ليل نهار، فلا ينسون أنهم لهذه الدنيا رافضون، ولزخارفها كارهون، فيجابونها في كل موقف إغراء يتعرضون له بالكلمة العلوية الصلبة: "يا دنيا غُرّي غيري.. قد طلقتك ثلاثا لا رجعة لي فيهن".
تُرى.. كيف يكون "خادما للمهدي عليه السلام" من يعمل في طريق خدمته ولكنه يجتهد إلى جوار ذلك بلبس أفخر الثياب وأكل أفضل الطعام وامتلاك أحسن الأثاث وبناء أروع المساكن واقتناء أجود الأدوات؟! كيف يكون "خادما للمهدي عليه السلام" من يتفاعل مع الدعوة إليه ولكنه مع ذلك يشغل باله في زيادة رصيد أمواله وتكثير راحته وهنائه؟! كيف يكون "خادما للمهدي عليه السلام" مَن يشرك طاقته في أنشطة الولاء ولكنه يقضي معظم وقته متنقلا بين الأسواق والملاعب ومجالس اللغو والترفيه بدعوى أنها مباحات غير محرمات؟!
ذلك ليس تخيّلا.. بل هو واقع حال اليوم، إذ يحق للمخلصين التألم عندما يروا شبابا ورجالا يظنون أنهم يحسنون صنعا في خدمة إمام زمانهم (عجل الله فرجه الشريف) ولكن قد غاب عنهم أنهم لم ينظفوا أنفسهم بعدُ من رواسب الدنيا، ولم يقاوموا ما عليه عامة البشر من حب الامتلاك وزيادة الدخل واقتناء الحاجات. فتراهم يبررون لأنفسهم انشغالهم بالدنيا، بأنها ضرورات ومتطلبات الحياة، وإذا ما وُضِّح لهم خطأ ذلك وقيل لهم أنها تخالف جوهر الإيمان وتُبعد عن صاحب الزمان (عليه الصلاة والسلام) فإنهم يُخرجون لك تلك التبريرات الواهية متكئين على أن الحياة تفرض ذلك عليهم!
إنها النفس الأمارة بالسوء، والشيطان الذكي الذي يعرف كيف ينفث في الصدور ويزحزح المرء عن طريق الاستقامة شيئا فشيئا، فيصوّر له أنه لا يتمكن من أن يعيش إلا إذا كسا بيته بالرخام دون الطابوق! وإلا إذا اشترى سيارة حديثة الطراز دون القديمة! وإلا إذا ابتاع لنفسه عشرين ملبسا بدلا من ثلاثة أو أربعة! وإلا إذا تجاوز معاشه كذا مقدارا دون كذا! وإلا إذا قضى لياليه في مشاهدة التلفاز ترفيها لنفسه دون قراءة القرآن وإحياء صلاة الليل!!
أين هي إذن قيم الزهد والتقوى والصبر والاستقامة والتضحية؟! وهل أن هذه الحال تنطبق على من يرغبون حقا في أن يكونوا من "خدام المهدي عليه السلام"؟! من قال أن استحقاق هذا الوسام العظيم يكفيه أن ينشط المرء في طباعةٍ وتوزيعٍ ونشرٍ وتثقيف وإعلام وبناء وما أشبه من سائر النشاطات والأعمال الجارية؟! كلا.. إنه مع كل ذلك ومع ضرورة الاجتهاد فيه، ينبغي أن لا ينسى الخادم تهجده في الليل، وبكاءه في الدعاء، وخشوعه في الصلاة، وترويض نفسه روحيا وأخلاقيا، وبناءها علميا وثقافيا، لكيلا تطغى عليه هذه الدنيا، فيسير في تعميرها - وهي الزائلة - وينسى آخرته وهي الأبقى.
لقد كان هذا الاشتباه - أو سمّه الغفلة لو شئت - سببا رئيسيا في اندثار كل تلك المدارس والتوجهات الإسلامية الفكرية، حين أخطأ أعضاؤها الجادة بانشغالهم في الحركة فحسب مع رضوخهم لدنياهم، وباهتمامهم بحاجات أجسادهم فقط وإهمالهم لمتطلبات أرواحهم. ولا يمكن أن يقبل الخدّام بذلك، فإن معناه أنهم ليسوا خدّاما بمعنى الكلمة، وليتنازلوا إذن عن هذا اللقب العظيم إلى من يأتي من الأجيال ممن هو أجدر بحمله.
أجل.. إنه أمر قاسٍ، ولكنه الامتحان الإلهي. يقول الله (عز وجل) مخاطبا نبه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث القدسي: "يا أحمد! لا تتزيّن بليّن اللباس، وطيّب الطعام، وليّن الوِطاء، فإن النفس مأوى كل شر، وهي رفيق كل سوء. تجرّها إلى طاعة الله، وتجرُّك إلى معصيته، وتخالفك في طاعته وتطيعك في ما يكره، وتطغى إذا شبعت، وتشكو إذا جاعت، وتغضب إذا افتقرت، وتتكبّر إذا استغنت، وتنسى إذا كبرت، وتغفل أمنت، وهي قرينة الشيطان. ومثل النفس كمثل النعامة، تأكل الكثير، وإذا حُمِل عليها لا تطير. ومثل الدِّفلى، لونه حسن، وطعمه مر. يا أحمد! ابغض الدنيا وأهلها، وأحب الآخرة وأهلها".
وهنا.. سأل سيد الأنبياء والأكوان صلى الله عليه وآله وسلم: "يا رب! ومن أهل الدنيا"؟! فقال الله تعالى: "أهل الدنيا من كثر أكله وضحكه ونومه"!
يتوجب على الخدّام، ومن يحذون حذوهم، أن يكون فكرهم معمولا في آخرتهم وكيفية الوصول إلى إمام زمانهم أرواحنا وأرواح العالمين فداه، ولا يتعدون ذلك إلا لتفكير سريع في مستلزمات حياة لابد منها للمعيشة. وضمن هذا النطاق الضيّق فحسب، يمكن للخادم أن يشغل عقله في ما عدا خدمته لمولاه عليه الصلاة والسلام. صحيح أن ذلك يحرمهم من كثير من الامتيازات التي حصل عليها غيرهم من أهل الدنيا والخاسرين أعمالا، فيعتبرونهم قد خرّبوا دنياهم ومستقبلهم.. ولكن الخدام أكثر وعيا وصلابة، فلا يهمهم أن يخربوا دنياهم في سبيل تعمير آخرتهم، ولا يهمهم مستقبلهم الدنيوي في سبيل مستقبلهم الأخروي.
فلنخرب الدنيا إذن! ولا شيء يهم ما دام مولانا علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه) قد بشّرنا وضمن لنا الفوز الأكبر حين قال: "طوبى لمن كذب مناه وأخرب دنياه لعمارة أخراه"! وحين حذّر وقال: "من عمّر دنياه أفسد دينه وأخرب أخراه"!
ولنتأسى بذلك الإنسان غير المعصوم - حتى لا يُقال أننا لا نبلغ مرتبة المعصوم - الذي كان أروع مثال في عصرنا هذا لمقاومة النفس وتخريب الدنيا وتعمير الآخرة.. إنه إمام المظلومين محمد الشيرازي الذي دوّن في كتبه ما كان يردده دائما: "الدنيا دار خراب.. وقلبُ مَن يعمّرها أكثر خرابا"!
فهلا عملنا على ذلك؟