أرسى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعائم أعظم حضارة نظرت للإنسان على أنه إنسان، فأعطته كامل حريته، وجردته من جاهليته، ونزعت عنه أثواب العصبية، ومنحته أسباب العزة، ووفرت له مقومات التقدم والنهضة. ولم تكن الحضارة الإسلامية كغيرها من الحضارات التي سبقتها أو التي تلتها، من قبيل حضارات الفرس والروم التي نظرت للإنسان على أنه عبد مستعبَد، أو الحضارة الغربية الحديثة التي اعتبرته حيوانا أو آلة وظيفتها تصريف طاقتها الشهوانية.
إن الحضارة الإسلامية الصافية، هي تلك الحضارة التي دعت الناس إلى أن يكونوا "أحرارا في دنياهم" وإلى أن يصبحوا "إخوانا في الله متحابين" وإلى أن يعتمدوا منهجية "ما خاب من استشار" وإلى أن يكون مقياسهم أنهم "سواسية كأسنان المشط" وإلى أن يقتفوا أثر من "بعث ليتمم مكارم الأخلاق" وإلى أن تصبح نظرة الفرد منهم لصاحبه أنه "إما أخ له في الدين أو نظير له في الخلق".
المأساة والطامة؛ أن هذه الحضارة الإنسانية السامية باتت اليوم مطوية في ذاكرة الإنسان، وإن لم تكن فهي مشوهة منتقصة مشوبة، رغم أنها قمة القمم ومنقذة الأمم، ولا سعادة إلا بقيامها على هذا الكوكب الصغير، الكبير بأزماته ومشاكله ومآسيه ومعضلاته. فإلى متى وإلى أين المنتهى؟!
ثمة خطبة بليغة لسيد البلغاء وأستاذ الفصحاء وأمير الصلحاء وإمام الأتقياء - صلوات الله وسلامه عليه - في نهجه يقول: "فانظروا كيف كانوا؟ حيث كانت الأملاء مجتمعة، والأهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة، ألم يكونوا أربابا في أقطار الأرضين؟ وملوكا على رقاب العالمين؟ فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة، وتشتت الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحازبين، قد خلع الله عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبرا للمعتبرين".
هلاّ دققنا في هذه الخطبة المسماة بـ "القاصعة"؟ ألسنا نرى فيها أنفسنا؟ ألسنا نجد فيها حالنا؟ لقد كانت أملاؤنا (أي جماعاتنا) في ما مضى مجتمعة، وأهواؤنا مؤتلفة، وقلوبنا معتدلة، وأيدينا مترادفة، وسيوفنا متناصرة، وبصائرنا نافذة، وعزائمنا واحدة.. وكنا أربابا في أقطار الأرضين، وملوكا على رقاب العالمين.. فانظروا إلى ما صرنا إليه في آخر أمورنا، حين وقعت الفرقة بيننا فهذا مصري وذاك تركي؛ وهذا مغربي وذاك إيراني، وحين تشتتت الألفة بيننا فبتنا ننظر إلى بعضنا بعضا بريبة وعداء، واختلفت كلمتنا وأفئدتنا (أي قلوبنا) وتشعبنا مختلفين، وتفرقنا متحازبين فهذا من حزب زيد وذاك من حزب عمرو.. فخلع الله عنا لباس كرامته، وسلبنا غضارة نعمته، وبقي مجدنا في الأولين.. قصصا تُسرد للمعتبرين!
نعم هذه حالنا وأي حال! فأما آن لنا أن ننتبه من غفلتنا ونصحوا من رقدتنا ونعود إلى أسباب عزتنا؟ ليس ذلك بمستحيل ولا هو من نسج الخيال، فقد أفاق اليهود - في عصرنا - من سباتهم، وأسسوا منظمتهم الصهيونية، ووضعوا على رأس أولوياتهم إقامة دولتهم على أرضنا، فنجحوا وانتصروا على دمائنا ورقابنا وأعراضنا، وتمكنوا من اللعب بمقدرات هذا العالم، بل لقد تحكموا فيه وأصبحت الدول العظمى رهينة بأيديهم، هذا وقد كانوا في ما قبل شرذمة منبوذة متناثرة لا حول لهم ولا قوة، فكيف استطاعوا ولم نستطع ونحن نفوقهم قدرة ومالا وعتادا ورجالا وأرضا، وثروات الطبيعة بأيدينا، ومهبط الرسالة عندنا، وإمـــام هذا الكون - عليه السلام - بيننا.. لكننا أضعناه كما أضعنا آباءه وأجداده بجهالتنا وغبائنا!!
الأمر بيدنا، والفرصة سانحة أمامنا، والمستقبل بعون الله لنا، فلنبدأ خطوتنا الأولى وستعقبها خطوات، لنصحح من مساراتنا ونتحاشى الزلات، لتكن همتنا عالية ولنتجاوز العقبات.
هاهي أسباب عزتنا وعوامل إعادة مجدنا:
أولها الوعي؛ فلابد لكل مسلم من أن يشعر بأنه أمسى متخلفا عن ركب الحضارة، ويدرك ذلك من أعماقه حتى يستنفر قواه لتغيير حاله، وهذا يقع على عاتق حملة الرسالة، فعليهم أن يؤسسوا المنظمات والمؤسسات والهيئات، وأن يطبعوا ملايين الكتب والنشرات، وأن يقيموا محطات إعلامية فضائية وإذاعية، وأن يكثفوا من نشاطاتهم التوعوية والتعبوية، فلا محيص عن ذلك من أجل استنهاض المسلمين.
وثانيها الاقتداء؛ برسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار من ذريته صلوات الله وسلامه عليهم، الذين هم سفن النجاة، فعلينا أن نتمسك بهم وبتعاليمهم، فهم الناطقون الرسميون باسم الله تعالى، ومفاتيح العلوم عندهم، وأسرار الخلق لديهم، وسبل استرداد المجد لا تُنار إلا بهم، فالله الله بوصاياهم.
وثالثها الأخوة الإسلامية والأمة الواحدة؛ فسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وأبو ذر العربي، كلهم أصبحوا إخوانا لا فرق بينهم، ونحن على اختلاف أعراقنا وأصولنا وعشائرنا ومواطن تولّدنا إخوان أيضا، لا فرق بيننا ولا تمييز، لا حدود ولا حواجز، فكل هذه الانتماءات القطرية والحدود الجغرافية والجوازات والجنسيات ما هي إلا بدع وخرافات وصنائع إستعمارية ترمي إلى تكريس الانفصالية بيننا، واللازم علينا أن نهدم هذه الجدران البالية التي قطّعت أمتنا الواحدة بسكين "فرّق تسد".
ورابعها الحريات الإسلامية؛ فـ "لا إكراه في الدين"، ولا قيود لأن الإسلام "يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم"، فينبغي توفير كل الحريات المشروعة، فـ "الأرض لله ولمن عمّرها" حتى يزدهر العمران، ولا ضرائب ولا جمارك في ديننا حتى تنمو التجارة ويتطور الاقتصاد، ولا حاجة للناس بأن يأخذوا رخصة لبناء مسجد أو حسينية، مدرسة أو مستشفى، محل أو بيت، ولا إلزام لهم بأن يستأذنوا الحكومات لإصدار صحيفة أو مجلة، أو تأسيس حزب أو منظمة، أو تأسيس ما يريدون تأسيسه وإقامة ما يريدون إقامته، ولا حق لأحد في أن يصادر الرأي أو الرأي الآخر، أو أن يفرض فكرا وصائيا على أحد، فالإسلام دين الحريات لا دين إلغائها.
وخامسها شورى المرجعية؛ فحتى تتوحد القيادة، وتصب الطاقات في مصب واحد مع الإبقاء على حال التعددية، لابد لمراجعنا من أن يتشاوروا ويتباحثوا لإنقاذ الأمة، واستعلاء الهمة. ولا يجوز أن يستأثر أحد بالحكم والقيادة، ويدعي الولاية، فإن في ذلك بابا يُفتح للاستبداد صعبٌ إغلاقه، والأصعب آثاره، التي رأيناها بأعيننا التي فاضت دموعها بعدما خسرنا التجربة.. الأمل.
فهذه خمسة أسباب نراها تعالج وضعنا، وتعيد لنا مجدنا وعزتنا، فهل نحن فاعلون أم سيبقى التلكؤ ديدننا؟!