بعد محاضرتين له ألقاهما سماحته حول أطروحة (دولة الأكارم) واصل الشيخ الحبيب «حفظه الله» في السابع من شهر رجب المرجب 1434 هجرية، حديثه خلال محاضرة هي الثالثة(1) له بهذه السلسلة، والثانية في ترتيب محاضراته الأسبوعية التي صار يلقيها في مسجد السبط الثالث المحسّن الشهيد (عليه السلام).
هذه المحاضرة المهمة ميّزها الشيخ الحبيب بعنوان (دولة الأكارم.. البيئة المحفزة) بناءً على النص الدستوري الذي أعطاه الإمام الصادق (عليه السلام) للنجاشي حاكم الأهواز - والذي كان يخفي عقيدته الرافضية في زمن المنصور الدوانيقي لعنه الله - في كتاب له يجيبه على استئذانه منه عليه السلام للدخول في الحكم، حيث جاء في جواب الإمام (صلوات الله عليه): ”فأما سروري بولايتك فقلت عسى أن يغيث الله بك ملهوفـًا خائفا من آل محمد (عليهم السلام)، ويعز بك ذليلهم، ويكسو بك عاريهم ويقوّي بك ضعيفهم، ويطفي بك نار المخالفين عنهم“. (بحار الأنوار - الجزء 74 - الصفحة 190)
وانطلاقا من الفقرة الأخيرة بهذا النص، شدد الشيخ الحبيب أن الابتعاد عن هذا الدستور في الجانب السياسي يقدّر علينا أن نعيش مظلومين ومضطهدين بسبب تمسكنا بعروة أهل البيت الطاهرين (عليهم السلام)، لذا يلزم علينا أن نسعى لتغيير هذا القضاء كي لا نبقى أذلاء محقرّين إلى الأبد فنقترب بأنفسنا نحو مساحة من العيش الكريم، والذي من أهم ما يساعد على تحقيقه هو تأسيس دولة أو إقامة حكم يكون من أساسياته إعانة الشيعة على أن يعيشوا كرماء نسبيا، مع اليقين بأن الحاكم الأنسب هو إمامنا صاحب العصر (صلوات الله عليه).
وأضاف الشيخ الحبيب أن من أهم ملامح العيش الكريم للشيعة حصولهم على حرية الموالاة والمعاداة لمن يشاؤون مع حرية التعبير وبيان الاعتقاد، ارتكازا على ما بيّنه الإمام الصادق (عليه السلام) ونقل إلينا بطريق إسماعيل البصري، إذ سأله الإمام (عليه السلام) فقال: ”تقعدون في المكان فتحدثون وتقولون ما شئتم وتتبرؤون ممن شئتم وتولّون من شئتم؟ فأجاب عليه: نعم“؛ وحينها ردّ عليه الإمام: ”وهل العيش إلا هكذا“. (الكافي - الجزء 8 - الصفحة 229)
واستطرد سماحته أن من حق الشيعي في العالم أن يعبّر عن معتقداته بما يهدم به عقائد الآخرين، إذ أنه لا يمكن الجمع بين كافة الأديان والطوائف لأن كل ملّة لها عقيدتها الخاصة وهي تعتمد في بقائها على نقض العقائد الأخرى، لكن اللطيف أن قول (احترموا عقائد الآخرين) لا يوجّه إلا للشيعي وكأنه إنسان من درجة أدنى!؛ وعلى أي حال يلزمنا تغيير هذا الواقع باكتساب مواطن القوّة سواء كانت قوة الاقتصاد أو اليد أو الإعلام أو السياسة.
وأردف الشيخ الحبيب أن على الدولة الشيعية السعي لرفع حال الظلم والاضطهاد عن الإنسان الشيعي ولو نسبيا، مستدلاً على ضرورة إقامة هذه الدولة بقول الإمام الصادق (عليه السلام): ”لا يستغني أهل كل بلد عن ثلاثة يفزع إليهم في أمر دنياهم وآخرتهم فإن عدموا ذلك كانوا همجا: فقيه عالم ورع، وأمير خير مطاع، وطبيب بصير ثقة“. (تحف العقول عن آل الرسول - الصفحة 321) وقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ”سلطان ظلوم خير من فتن تدوم“. (كنز الفوائد لأبي الفتح الكراجكي - الصفحة 57)
وحول محور البحث الأساسي (تكوين البيئة المحفزة) أكد الشيخ الحبيب أن من أهم واجبات دولة الأكارم، أن تحفز الدولة الشيعية الناس على الخير وتحثهم لللاقتراب نحو أهل البيت الطاهرين (صلوات الله عليهم)، كي يزداد بذلك الشيعة ولاءا وطاعة لأهل بيت النبوة ويسعون لارتقاب دولتهم مع مهدي آل محمد، أما المخالفين فيساعدهم هذا بأن يخطوا خطوات في طريق التشيّع والرفض وتبني الأفكار السليمة، وعليه قد ينبري علمائهم مثلا للدفاع عن أهل البيت، وهو الأمر الذي سيسهم بعد ذلك في إسقاط الرموز المنحرفة والناصبة العداء لأهل بيت العصمة والرسالة.
وعن نموذج عملي للبيئة المحفزة أشار الشيخ الحبيب إلى أن الدولة البويهية قد كوّنت هذه البيئة ولذا وصل إلينا من زمنها مؤلفات قيّمة جدا حفظت إسلام التشيّع الحق وبيّنت لنا فساد وباطل العدو، إذ في تلك الحقبة كانت هناك مؤلفات ومصنفات عقدية عديدة وضعها علمائنا الأبرار كأمثال الشيخ المفيد، وتلميذه الشيخ المرتضى، وتلميذهما شيخ الطائفة الطوسي (رضوان الله عليهم).
ونوّه الشيخ إلى أن الدولة البويهية كانت اسميا تحت حكم دولة بني العباس، إلا أن حكام هذه الدولة والذين كانوا متشيعين قد سعوا نسبيا لرفع الجور عن شيعة أهل البيت (عليهم السلام) وعلمائهم فكوّنوا بيئة تسمح بحرية المناظرة والحِجاج، وعقد حلقات الدرس العلمي، والتأليف، والكتابة، والخطابة، والنبوغ، والنقد الموضوعي. وهو الأمر الذي استقطب غير الشيعة للتماهي مع الثقافة الشيعية بخطوطها العريضة، خصوصا وأن علماء المخالفين يتشكلون ويتحركون تماشيا مع الدولة والسلطان وتوجهات الحاكم.
وفي نموذج آخر مختلف أشار الشيخ الحبيب إلى ما وقع في عهد أحمد بن الحسن المادراني (رحمة الله عليه)، حاكم الري في عهد المعتمد العباسي (لعنة الله عليه)، إذ كان هذا الحاكم شيعيا من أهل الصلاح والتقوى والإيمان، ناقلا سماحته قصة مأثورة عن هذا الحاكم تدل على إغاثته للملهوفين من شيعة آل محمد (عليهم السلام)، وإعزازه لذليلهم، قبل أن يبيّن سماحته أن في عهد المادراني قد قام أحد كبار علماء المخالفين، وهو عبد الرحمن بن أبي حاتم الحنظلي الرازي، بتأليف كتاب في فضائل أهل البيت (عليهم السلام).
وفي الختام شدد الشيخ الحبيب أن من النتائج العظيمة لهذا الحكم غلبة التشيّع على مدينة الري، والتي فيها مدفن ومقام السيد الجليل عبدالعظيم الحسني «أعلى الله درجاته»، كثمرة من ثمار حكم هذا الأمير الخيّر أحمد بن الحسن المادراني، وعليه يلزم علينا التحرك في هذه الدائرة لتأسيس حكم على غرار عهده يضمن للشيعة عيشا كريما ويكون سببا في تشيّع بلدانا بكرية في المستقبل.
(1) المحاضرة هنا: