في كثير من الأحيان؛ تجد الإنسان الإمامي يتراجع عن المطالبة بحقوقه أو بيان عقائده وأفكاره ما إن تُوَجَّه إليه وصمة "الطائفية"! فتراه يهرب منها وإن تطلب ذلك منه هضم ما وقع عليه من ظلم، أو التخلي عن حقه في إبداء آرائه من منطلقاته العقائدية. وما ذلك إلا لأن "الطائفية" صُيِّرَت تهمة شنيعة تحطم من يُتَّهم بها نفسيا واجتماعيا.
وعاضد تدني الوعي لدى قسم كبير من الوسط الإمامي في تضخم المعنى السلبي للطائفية إلى حد لم يستطع فيه أحد أن يميز بين ما هو طائفي وما هو غير طائفي، وفق المفهوم الذي يحمله هذا الاصطلاح في الوقت الحاضر. بل إن هذا التضخم بحد ذاته؛ أوقف كثيرا من مشاريع تنمية الخط الإمامي بمجرد أن أُلصِقت بأية خطوة يخطوها المنمّون تهمة الطائفية!
ومما يؤسَف له؛ أن أطرافا من الوسط الإمامي التي كانت ولا تزال تجهل المفهوم الصحيح للطائفية، ساعدت على رسوخ المفهوم الخاطئ في الأذهان، وفي عرقلة معظم حركات الإصلاح والإنهاض، وكان إحدى دوافعها إلى ذلك، عقد ورثتها نتيجة تراكمات متعددة، وهي في مجملها تدور في دائرة الشعور بالنقص والانهزامية والصغر أمام الآخرين. وهو ما أدى لاحقا إلى تضاؤل رهيب في حجم الطاقة الشيعية العامة.
ولم يكن لـ "هيئة الخدام" وما تمثله من اتجاه؛ أن تسلم من هذه التهمة، التي لم تكن محل انزعاج لدى الهيئة بقدر ما كانت محل ترحيب! ذلك لأننا إذا أدركنا المفهوم الصحيح للطائفية فإننا حينئذ سنعتبر هذا النعت تشريفا لنا!
هنالك في الغرب؛ مؤسسات ومنظمات (طائفية) بمعنى أنها تعنى بشؤون الطوائف التي تمثلها، وتدعو إليها وتدافع عن معتقداتها وتطالب بحقوقها. ولم يعتبر أحد هناك أن هذه المؤسسات خارجة على الدستور أو القانون، أو أنها مؤسسات طائفية بالمعنى المتداول هاهنا. ولو أن هذه المؤسسات نقلت أنشطتها إلى هذه الديار؛ لجوبهت وووجهت وحوربت بدعوى أنها تمزق المجتمع وتفرقه!
إننا لو عدنا إلى المفهوم الصحيح للطائفية، نجد أنها تعني "السلوكيات والأنشطة التي تقوم بها فئة ما لأجل الحفاظ على هويتها الخصوصية وتحقيق موقع كياني لها". وهذا المعنى لا يمكن لأحد أن يعترض عليه، لأنه يمثل الحالة الطبيعية لأية طائفة أو جماعة، من أن يكون لها كيان خاص، في البعدين الأيديولوجي والاجتماعي خصوصا. وهذه "الكيانية" تتطلب من صانعيها والمحافظين عليها التزام طرح خاص ومسار خاص، مؤداه ضمان الحقوق والإبقاء على ذاتية الطائفة وهويتها، والدفاع عن ركائزها وبناها العقائدية.
فإذا عُنِي بالطائفية هذا المعنى؛ فنحن أول الطائفيين! ذلك لأننا نؤمن بكل ثقة بضرورة الدفاع عن حقوق الطائفة والذود عن مكتسباتها، ولأننا ننتهج منهجية الدعوة إلى مشروعها العقائدي والفكري وننادي بالتزامه وتطبيقه لإيماننا بأنه يشكل الحل الناجع لمشكلات الأمة والمعالجة الجذرية لآفاتها المزمنة. وليس في ذلك من مثلبة، بل هو شرف لنا، كما هو للآخرين، إذ لكلٍ الحق في أن يدعو إلى ما يدعو إليه، وينادي بما ينادي به، وفق قناعاته ورؤاه ومعتقداته. وهذا أمر مكفول للجميع بلا استثناء.
غير أن ما لا يمكن قبوله في وسط هذه المعادلة؛ أن يلغي طرفٌ الآخر، أو تحتكر طائفةٌ الساحة، فيُسمح لفئة دون أخرى بالعمل والتحرك دون الفئات الأخرى. وهذا ما يمثل الطائفية في بعدها السلبي، أو لنقل بعبارة أخرى أنه يمثل "الأحادية الفئوية" لنكون أكثر دقة في التعبير.
أن أكون أنا وحدي أمتلك الحق؛ والآخرون لا حق لهم، فإن هذا هو التعامل الممقوت، والطرح المرفوض. أما أن أكون أنا والآخرين، لنا الحقوق ذاتها والواجبات نفسها، فإن هذه هي الوضعية الصحية الإيجابية التي تؤدي إلى نماء المجتمع وتطوره.
إنها دعوة لإعادة صياغة المفاهيم، فالطائفية لا تعني أبدا إلغاء الآخر، بل هي منهجية للحفاظ على الخصوصية، وذلك حق مشروع. لنكن نحن طائفيين، والآخرون فليبقوا طائفيين أيضا، لنا معتقداتنا ومطالباتنا، ولهم ما يناظرها. ولكن الذي يجب أن يحكم العلاقة في ما بيننا وبينهم، وبين مختلف الأطراف والفئات، هو الإيمان بالتعددية الفئوية والطائفية، لتصبح التعددية قاعدة يرتكز عليها الجميع. وعندها سيستوعب كل طرف الآخر، ولن يتحسس من مطالبه ورؤاه.
لبنان مثلا؛ حقق نموذجا متطورا في المنطقة بهذا الشأن، فالطائفية السياسية هنا استطاعت أن توقف حربا أهلية دامت سنوات عجاف، واليوم - وبعد الاتفاق على الحصص وضمان الحقوق - تكونت آلية تعامل مرنة بين مختلف الطوائف ورموزها، وأتاحت الآلية لتلك الرموز أن تعمل سوية في مشاريع مشتركة، وأن تتعاون في ما بينها لتقدم أروع صورة من صور التعاون المدني الهادف إلى خير المجتمع كله، بكل فئاته وطوائفه.
إن بقاء هذه الحساسية المفرطة تجاه مفهوم الطائفية، ينذر بشر وخيم. فلقد كانت "العمامة الشيعية" يوما ما - ولربما لا تزال - رمزا للطائفية عند كثيرين! وعلى هذه فقس. وما ذلك إلا نتيجة غياب المفهوم الصحيح للطائفية التي نعني بها ما عنيناه آنفا، ولا نعني بها إقصاء أو تحجيم أو إلغاء الآخرين. فهذه هي الأحادية التي حددناها وأوضحناها.
إننا يجب أن ندرك أن الاختلاف سنة الحياة، ولن يتمكن أحد من أن يوقف هذه السنة. فإذا أردنا أن نؤطر هذا الاختلاف بإطار إيجابي، فعلينا أن نؤمن بالطائفية المشروعة، وبالتعددية التي تحكمها وتضبطها، وعندئذ يمكننا تحقيق الكثير لصالح المجتمع. ولعل بعض الذين يجهلون هذه الحقيقة يرفعون شعار "الأسرة الواحدة" ويصمون الآذان به! وإلى هؤلاء نقول: إن هذا الشعار أمسى شعارا استهلاكيا ثبت للجميع خطؤه، فالأسرة الواحدة لا تعني أبدا إذابة الفوارق الأيديولوجية والفكرية بين الأطراف، ذلك لأن أية أسرة؛ أيا كانت، فإن أفرادها تجدهم يختلفون في أفكارهم ومعتقداتهم وأذواقهم، تبعا لشخصياتهم وما يميلون إليه، فتجد الأب يختلف مع ابنه، والأخ مع أخته، وهكذا.. ولكنك تراهم عندما يتعلق الأمر بظرف خارجي، أو مصلحة مشتركة، متلاحمين بأشد أنواع الأواصر، رغم إدراكهم لاختلافاتهم. وإذا ما تمكنا من تحقيق هذا النموذج على مستوى الاجتماع العام فإننا نكون قد ربحنا مجتمعا سليما.
ولو تتبعنا حركة التاريخ؛ فسنلاحظ أن كل فئة سعت لنيل حقوقها المشروعة والحفاظ على خصوصيتها الكيانية، كانت قد وُجهّت إليها تهم العنصرية والفئوية والطائفية وما إلى ذلك. ولكن ومع مرور الوقت، كان الاستمرار في النهج الطائفي المشروع كفيلا بإزالة الاحتقان تجاه الطائفة ومطالبها.
نعم.. إن لنا مطالب مشروعة يحق لنا أن نطلبها، ولنا عقائد يحق لنا أن ندعو إليها، ولنا أفكار يحق لنا أن نروجها. وذلك لا يخل أبدا بالروح الوطنية التي يجب أن تكون حاضرة فينا، بل على العكس من ذلك، فإن الطائفية الإيجابية، تشكل في نتيجتها توافقا اجتماعيا على أصول وثوابت معينة توفر لكل الأطراف الأجواء الصحية المطلوبة كي تسهم بدورها في تطور المجتمع ورقيه.
ولئن كانت المطالبة - مثلا - بجعل يوم عاشوراء عطلة رسمية، مطالبة طائفية وفق المفهوم السلبي الذي يطرحه الخصوم، فنحن إذن طائفيون بلا أدنى شك!
نكرر مجددا: دعونا نتفق على حق كل جهة في الحفاظ على طائفيتها وكيانيتها والدفاع عن حقوقها المشروعة، ووقتئذ لن يُغبَن أحد، ولن تصادر حقوق أحد، وسيتحقق التعايش السلمي التوافقي في مجتمع صحي مثالي.