كنا نظن في ما مضى؛ أن الذي يعيق انتشار التشيع وسريانه في الأرجاء والآفاق، إنما يكمن في الحاجز السلطوي الحكومي الذي فرضته الحكومات الجاثمة على صدر شعوبنا. وكنا ننظر بعين الغبطة إلى ناشطينا في الغرب لتحررهم من هذا القيد بما وفرته لهم الحرية المتاحة هناك لهم، والتي وإن لم تكن كاملة، إلا أنها شرعت أمامهم الباب للعمل والتحرك في سبيل الدعوة إلى الله وآل الله.
وكنا نتوق إلى أن تقع "معجزة" تجعل من أوضاع الداخل مماثلة لأوضاع الخارج، من حيث الحرية والانفتاح اللازمين لانطلاقنا ونهوضنا بمسؤوليتنا التبليغية. وفي غمرة ذلك؛ شخصت أبصارنا نحو إيران عندما تأججت الثورة هناك، وتنفسنا الصعداء واستبشرنا، وشعرنا بأن الفرج آتٍ، بقيام دولة إسلامية إمامية ستمنحنا الفرصة المنتظرة، لإبلاغ العالم برسالتنا وكشف مظلوميتنا والتعريف بعقيدتنا وثقافتنا.
كانت تراودنا الأحلام من فينة لأخرى، وكنا ننتظر فقط الإشارة الخضراء للانطلاق والتحرك، ولكننا سرعان ما أفقنا على حقيقة مرة، وطعنة غادرة. فأما الحقيقة فبانت عندما وجدنا أن توجهات ساسة الحكم لا تنظر إلى ما ننظر إليه، وليس نشر التشيع همّا عندها، ولا هدفا محوريا تسعى إليه. وأما الطعنة فقد جاءتنا في أقدس مقدساتنا، أصول ديننا ومذهبنا، التي بدأ ساسة الحكم بتطويعها حسب أهواء ومصالح، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزه لتغدو مجرد "نظرية" أصلا من أصول الدين، ولتصبح محورا ارتكازيا يفصل بين الحق والباطل، والإيمان والكفر!
وجرّت هذه الطعنة طعنات أُخَرْ، إحداها وُجِّهت ضد المرجعية، وأخرى ضد الناشطين الولائيين، وثالثة ضد المؤسسات العقيدية، ورابعة ضد الحوزة العلمية، وخامسة وسادسة وسابعة.. إلى ما لا يمكن حصره ولا تعداده في هذا المقام.
في تلك الأثناء عرفنا أننا قد أفرطنا في التفاؤل والاتكالية على نظام كهذا، وساسة كهؤلاء، فعدنا أدراجنا خائبين ننتظر فرجا يتمثل بسقوط الحاجز السلطوي الصلب، الذي ازداد تسلحا مع تأثيرات الحرب الإيرانية العراقية، تلك الحرب التي خلقتها دوائر الاستعمار لا لشيء إلا لاستنزاف الطاقة الشيعية الهائلة، الكامنة في نفوس أتباع أهل بيت النبوة صلوات الله عليهم، والتي تحتاج فقط إلى من يحركها ويغذيها ويوجهها في الاتجاه المطلوب، لتحقيق غاية التمهيد للدولة الإلهية العادلة، دولة مولانا صاحب العصر ومدار الدهر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
لم يسقط الحاجز؛ ولم نتحرك لإسقاطه كما ينبغي، كعادتنا في التواكل. بيد أننا أخيرا؛ وجدناه يتداعى بعوامل لم تكن في الحسبان، وهي أيضا لا تعود إلى "معجزة" خارقة للعادة.. إنه عالم جديد؛ تأسس على ما خلقته الثورة التقنية من أبعاد واسعة، ومجالات رحبة، وساحات فسيحة. عالمٌ أهم سماته الانفتاح، قرّب المسافات، وكسر القيود، وجعل البشر جميعا يعيشون في قرية صغيرة، وسيلة تواصلهم فيها، مجرد كبسة على زر صغير.
الفضائيات والانترنت والاتصالات الحرة؛ والعولمة الثقافية؛ هي شكل هذا العالم الذي نعيش فيه الآن. هذا الشكل الذي تجاوز الأشكال المفروضة علينا من قبل سلطاتنا وحكوماتنا، التي ليس لها الآن أن تحجر على فكرنا، أو تغلق أبواب المعرفة علينا، أو تصادر حريتنا، كما كان الأمر من ذي قبل. كل شيء أضحى متاحا الآن؛ فالحاجز قد سقط، والقيد قد تفكك، والحدود قد تلاشت.
هاهي سبل العمل والتحرك قد أتيحت أمامنا، وما عادت كل هذه الحكومات الجائرة بقادرة على أن تعيق مسيرنا. والمفترض الآن؛ أن يكون الشيعة قد تحركوا ونشطوا واتجهوا إلى ما كانوا يحلمون به، من عمل دؤوب غرضه هداية البشرية إلى طريق أهل بيت الرسالة عليهم الصلاة والسلام، فما عاد لهم من عذر يعتذرون به، ولا حجة يتحججون بها، بعد إذ عبّدت لهم الثورة التقنية طريقا ما كانوا يتخيلونه، وهم اليوم أشبه بمن كان في سجن ثم وجد حيطانه تنهار وتتساقط وسجّانه لا يقدرون على إسنادها وتدعيمها إلى أن تساوت بالأرض، فأضحى السجين حرا طليقا أينما يتجه. هذا هو المفترض.. فما هو الواقع؟!
الواقع هو أن كل هذه الحرية، وكل هذا الانفتاح، وكل هذه الآفاق الشاسعة، لم تأتِ بنتيجة سوى تشيّع شخص هنا، واستبصار آخر هناك، وبضع خطوات إنجازية خطاها بعض الناشطين الشيعة على استحياء!
أين ما كنّا نحلم به؟! أين التموّج الضخم الذي كنّا ننتظر أن يهز العالم؟! أين الراية الشيعية التي كنا نعتقد بأنها ستخفق في كل الأرجاء؟! أين الاكتساح المؤمل؟! أين الانتشار؟! أين التوسع؟! أين وأين؟!!
لقد كشف هذا العالم الجديد أننا بالفعل عاجزون عن ركوب مركبه، أو اعتلاء منصته، وجلّ ما هنالك أننا حققنا بعض التقدم اليسير الذي لا يرقى إلى الذكر مستفيدين من هذه الأجواء الجديدة.
فالعجز فينا إذن، والخلل فينا نحن، وما دام الأمر كذلك فإنه لا سبيل لنا إلا البحث في مكامن الخلل، ومعالجتها والانتهاء من حلها، وإلا فإننا سنبقى على هذه الحال من الجمود والخمول المزري الذي لن نفلت به من مسؤوليتنا أمام الله تعالى وأمام أوليائه المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
والكلام عن مكامن الخلل يعود بنا إلى الحديث عن الحواجز، فنقول: أنه إن كان الحاجز السلطوي الكبير قد سقط الآن، فإننا قد اكتشفنا - بالتجربة - أن ثمة حواجز أخرى لا تقل مَنَعَةً عنه لا تزال قائمة! وهي ليست مفروضة علينا، ولا أقامها المعادون لنا، وإنما صنعناها بأيدينا!
هذه الحواجز كامنة في عقولنا ونفوسنا، بعضها حقيقي والآخر وهمي، فالذي في عقولنا منها حقيقي، والذي في نفوسنا وهمي. وهذه الحواجز هي أوّل ما يجب أن نحطمه ونهدمه، وإذا فعلنا ذلك وأتقنّاه، فسنرى يومنا الذي نتمناه، عندما يعم ذكر أهل البيت عليهم الصلاة والسلام وترتفع راية التشيع خفاقة بالعز والمجد إن شاء الله.
أولى الحواجز التي يجب تحطيمها؛ حاجز الخوف. إذ هناك شعورا عاما في أوساطنا بالخوف من الإقدام، وذلك يعود بالدرجة الأولى إلى تأثيرات نفسية خلقتها ظروف الاضطهاد في أزمان غابرة، وهو ما أدى إلى سواد حالة الإحجام، والانطوائية على الذات. والواجب معالجة هذه الحالة، وانتزاع الخوف من النفوس، وإحلال الشجاعة والجرأة فيها. وفي سبيل ذلك لابد من إعادة صياغة مفاهيم الشارع الشيعي، ليعرّف بها نفسه ومجتمعه، وليحقق بها الغاية المطلوبة، فبدون ذلك ستبقى كثير من المفاهيم المغلوطة حاضرة في الأذهان، وهي التي تؤخر وتعرقل النهضة المنشودة، وقد سبق أن أشرنا إلى بعضٍ من هذه المفاهيم والأفكار السلبية الخاطئة من ذي قبل.
وثاني الحواجز؛ حاجز السياسة. حيث لعبت الأحزاب السياسية الطافية على السطح حاليا في أفكار الناس وعقائدهم، وجعلت همّهم ينصب على القضايا الهامشية الواقعة ضمن نطاق حب الاستحواذ على الساحة، متبعة في ذلك أساليب رخيصة تطعن في ذمة هذا وتجرح في كرامة ذاك، وتحتكر العقيدة لنفسها وتخرج منها من تشاء، وكلٌ يضرب على هذا الوتر بغية الوصول إلى سدة الرئاسة والتحكم في الجماعة. وأدى هذا إلى انشغال الناس عن القضايا المصيرية، والتحرك المطلوب، لتنصرف طاقاتهم إلى ما فيه إضعاف بعضهم بعضا. وفي الجهة المقابلة؛ تسببت هذه الوضعية في إحداث نفور عام لدى غير الملتزمين؛ من الدين، إذ اعتبروا تصرفات الرجال - سيما الساسة منهم - مقياسا له. والعامل الرئيسي لكسر هذا الحاجز هو الوعي، إذ يجب توعية الجماهير بحقيقة تلك الأحزاب، وبيان أنها لا تمثل الدين بأي شكل من الأشكال، ودفع المؤمنين إلى التحرك على صعيد نشر الدعوة والدين، وهداية البشرية، من خلال تجاهل المعارك الحزبية الداخلية التافهة. بيد أنه يتوجب ملاحظة أن هذا لا يعني عدم مواجهة الظلم، أو مجابهة المنكر والباطل، بدعوى أنها معارك داخلية، فإنما هو واجب شرعي يحتم التصدي، لأنه سينقي الصف الداخلي من الشوائب. ومقصود كلامنا في هذا البعد هو ألا ننشغل في المعارك الوهمية السياسية التي يراد منها تحقيق مكسب لهذا الطرف أو ذاك، لا التي هدفها تنقية الأجواء وتصفيتها من الضلال، أو رفع الظلم ودحر الظالم.
وثالث الحواجز؛ حاجز النقص والانقطاع. فالنقص هو في المعرفة التراثية والثقافة الولائية، والذي تسبب في انعدام أهلية من يفترض بهم أن يحملوا مشعل الهداية. والانقطاع هو في أدوات ووشائج التواصل الشيعي - الشيعي، بين الكيانات والوحدات الاجتماعية الإمامية، وهو ما ترتب عليه غياب ملحوظ في فهم المشروع الاستراتيجي الشيعي الكلي، وإحلال المشاريع الإقليمية المنغلقة داخل أطر حدودية معينة محله، وجرّ ذلك ظهور شعور انفصالي اقتطاعي لدى كثير من أبنائنا بدلا من الإحساس بالقيمة الوحدوية الشيعية الكبرى، التي تجعلنا جميعا نحن معشر الموالين لآل البيت عليهم الصلاة والسلام سواسية، لنا الهموم ذاتها، والواجبات والحقوق نفسها، والمشروع النهضوي عينه.
وثمة حواجز داخلية أخرى، لا تزال تحبط خطوات التقدم، وتحول دون تحقيق الأمل، غير أننا اقتصرنا في هذا الخطاب على ثلاثة نراها أساسية. وبقاء هذه الحواجز يعني أننا في مكاننا سنراوح، ولذا فلا بد من تحطيمها بمعول الشجاعة والإقدام، في زمن لم نستفد فيه من الأدوات الضخمة المتوفرة فيه لنشر رسالتنا، رسالة النور والهداية والنهضة.
فلنحطم هذه الحواجز.. ولننسفها، وعندها سنغير من ملامح هذا العالم!