قال الحلّي: «إنّ العارفين بالله -تعالى- يتميّزون عن غيرهم من بني نوعهم لما شاهدوه من ملكوت الله -تعالى- وأحاطوا بما عرفوه من صفاته فطالت ألسنتهم على غيرهم؛ فكان علمهم أولى باسم علم الكلام».
هذا ما ذُكِر عندنا من وجوه تخصيص علم الكلام بهذا الاسم، أما ما ذُكِر عند العدوِّ فمن ذلك ما ذكره التفتزاني في شرح العقائد النسفيّة: «وسمّوا معرفة العقائد عن أدلّتها بالكلام: أ. لأنّ عنوان مباحثه كان قولهم الكلام في كذا وفي كذا. ب. ولأنّ مسألة الكلام في حدوث القرآن وقدمه كانت أشهر مباحثه وأكثر نزاعاً وجدلاً. ج. ولأنه يورّث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات وإلزام الخصوم كالمنطق في الفلسفة. د. ولأنه أول ما يجب من العلوم التي تُعلم وتُتَعلّم بالكلام؛ فأُطلِق عليه هذا الاسم بذلك ثمّ خُصَّ به ولمْ يُطلق على غيره تميّزاً له. هـ. ولأنه إنما يتحقق بالمُباحثة وإدارة الكلام بين الجانبين وغيره قدْ يتحقق بالتأمّل ومُطالعة الكتب. و. ولأنه أكثر العلوم خلافاً ونزاعاً فيشتد افتقاره إلى الكلام مع المخالفين والردّ عليهم. ز. ولأنه لقوّة أدلته صارَ كأنه هو الكلام دون ما عداه من العلوم؛ كما يُقال للأقوى من الكلامين هذا هو الكلام. ح. ولأنه لابتناءه على الأدلة القطعية المؤيد أكثرها بالأدلة السمعية أشد العلوم تأثيراً في القلب وتغلغلاً فيه؛ فسُمّي بالكلام المُشتق من الكَلَم وهو الجرح».
إشارات على ما تقدّم:
أ. قد احتلت مسألة أنّ القرآن مخلوق أو غير مخلوق، قديم أم ليس بقديم هذه المسألة التي اُصطلِح عليها ”حدوث القرآن“ وقع فيها نزاع عريض سُفِكت فيها دماء بالنتيجة، بين من رأى أنّ القرآن قديم ولا يوثف بالمخلوقية؛ فالكتاب كلام الله وكلام الله من الله وكله واحد، هذا ما ذهب إليه أهل الحديث من المخالفين ومنهم أحمد بن حنبل. في حين ذهبت المعتزلة صراحةً بأنّ القرآن مخلوق. أما الإمامية التزموا قول أئمتهم -عليهم السلام- والذي مؤداه أنّ القرآن غير الله؛ حتّى لا يلزم منه تعدد القدماء وهذا عين الشرك، كأنك تُشرك بالله كتابه (كلامه)، فمؤدى قول الأئمة -عليهم السلام- أنّ القرآن غير الله؛ إنه قول الله، والقول من الأفعال، والصفات الفعلية مُنفكة عن الذات، وليس من الصفات الثبوتية التي هي عين الذات، حينما نقول أنّ صفات الله عين ذاته نخص بذلك الصفات الثبوتية.
لماذا وقع النهي عن التعبير عن القرآن بأنه مخلوق؟ لأنّ ”مخلوق“ من إحدى معانيها في اللغة وفي الاستعمالات اللغوية أنه مُختلق، فالكلام المُزوّر كان يُقال أنه كلام مُختلق؛ فتنزيهاً أُمرنا بأنْ نتحرّز من القول بأنه مخلوق.
وهذه المسألة وقع فيها نزاع عريض طويل؛ سُجِن وعُذِّبَ فيها أفراد، وكان ممن سُجِن أحمد بن حنبل في أيام المُعتصم؛ وهذا المُخالفين يضربون به المثل -أي المُعتصم- في الغيرة ونجدة الحرائر! ذلك لأنَّ المُعتصم كان مُعتزلي المذهب، وجاء بعده المتوكّل؛ فأخذ جانب أهل الحديث فاضطهد المُعتزلة في المقابل وشرّدهم وسجنهم وقتلهم، وانتصر لأحمد بن حنبل، ولذا يُطلقون على المتوكّل بـ ”ناصر السنة“؛ لأنه انتصر للقول بأنّ القرآن ليس بمخلوق، مع أنّ هذا القول بحدّ ذاته شركي!
ب. يُمكن اكتساب علم الكلام، ولكن لا يُمكن إجادته الحقيقة؛ لأنّ إجادته تتوقف على أنْ تتناظر وتتحاور ومداورة الكلام.
ج. علم الكلام مليئ بالمُنازعات؛ فدائماً فيه نزاع وخصام واحتداد بالنقاش.
د. في علم الفقه حين نتوصّل إلى نتيجة لا يُمكننا القطع بصحّتها، أما في علم الكلام غالباً ما تكون النتائج أثبت في النفس؛ حتّى تصل المرحلة أنك تُقاتل دونها؛ فصارت أدلة علم الكلام أقوى من غيرها.
هـ. ذكرنا كثيراً من التعليلات؛ فالظاهر أنّ كثيراً من التعليلات هي اجتهادية وليست سمعية -واقعية- سمعوها فتناقلها الناس، مثلاً أحدهم يريد تفسير سبب تسمية العراق بالعراق، فهنالك أقوال هي اجتهادية، لا أنه تمّ نقلها خلفاً عن سلفاً؛ فيقول المُفسِّر مُجتهداً: من تعريق السواد، أو من الكثافة، والخ...