علّة التسميّة:
التعليلات في الكشف عن سبب تسمية علم الكلام بعلم الكلام ليست مردوفة بأثر مروي.
هنالك وجهين إضافيين لم يُذكرا مع أنهما فيهما أثر. الوجه الأول الأول: قد سُميَّ هذا العلم بالكلام بلاحظ تزويغ الكلام وتحسينه وتجويده وتهذيبه وضبطه، هناك أثر يدلّنا على ذلك، وهو ما جاء في كتاب العلم لابن خيثمة النسائي عن مُجاهد -واعتددنا بهذا الأثر لأنه عن قديم؛ مُجاهد كان يعيش في القرن الأول- قال: «ذهب العلماء فلم يبقى إلا المتكلّمين، وما المجتهد فيكم إلا كاللاعب فيمن كان قبله»! يعني هذا الذي يتكلّم ويجمّل كلامه ويزوغه ليس عالماً، بعبارة أخرى كلامه إنشائي ليس كلاماً علمياً، ولكنه بارع في هذا الإنشاء! وكأنّ مُجاهد يُريد أنْ يُحذّر من المظاهر الكلامية! فإن أراد بالـ (المتكلّمون) هم أهل صنعة علم الكلام الذي نحن بصدده؛ فيكون علم الكلام مجرّد ظواهر كلامية. الوجه الثاني: علة تسمية علم الكلام بعلم الكلام هم هؤلاء الذين اهتموا بالاصطلاحات العلمية، وضبط الموازين التعلمية على حساب الورع والتقوى؛ فكان اجتهادهم اجتهاداً صِرفاً في إثبات الذات، في إثبات أنهم يتكلّمون، ومثال ذلك أنّ شخصاً يؤلف كتاباً لكي تقول عنه الحوزات وأهلها إنه أصولي عالم محقق مدقق، أي لم يؤلّف هذا الكتاب إخلاصاً لله وللإفادة، وإنما لإثبات الذات! يقول الضحّاك كما في إحياء العلوم للغزالي: «أدركتهم وما يتعلّم بعضهم من بعضٍ إلا الورع، وهم اليوم لا يتعلّمون إلا الكلام»!
لعلّ الأقرب في أنَّ علم الكلام إنما سُميَّ بهذا الاسم لأنه مأخوذ من كلام مولانا أمير المؤمنين -صلوات الله عليه- وهذا أمر قدْ التفت إليه بعض المحققين أيضاً، شأنه شأن علم النحو؛ لِما سُميَّ علم النحو بعلم النحو؟ الأصل هو ما قاله الأمير -صلوات الله عليه-: «الكلام اسم وفعل وحرف؛ فانحو نحو هذا»، وما يقوله الأمير هو أحرى أن يُلتفت إليه؛ فمن الذي غيره قد أصل للمطالب الكلامية التي تُدرس اليوم؟ هو أوّل من تكلّم في العدل الإلهي، والجنة والنار، والقضاء، والمعاد، وهذّبها وفصلها بكلام بليغ؛ فليس لنا غيره. فنقول: إنَّ الواضع الأساس لعلم الكلام هو أمير المؤمنين -عليه السلام- وإنه لهذه العلّة سُميَّ علم الكلام بعلم الكلام أي المأخوذ من كلام الأمير، وهذه الحقيقة ثابتة عندنا وعند مخالفينا، أما عندنا ما قاله السيّد المرتضى -عليه الرحمة- في أماليه: «اعلم أنّ أصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين علي -عليه السلام- وخطبه، وأنها تتضمن من ذلك ما لا مزيد عليه ولا غاية ورائها، ومن تأمّل المأثور في ذلك من كلامه علم أنّ جميع ما أسهب المتكلّمون من بعدُ في تصنيفه وجمعه إنما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الأصول، ورويَّ عن الأئمة من أبناءه -عليهم السلام- من ذلك ما لا يكاد يُحاط به كثرة، ومن أحبَ الوقوف عليه وطلبه من مضانه أصاب منه الكثير الغزير الذي في بعضه شفاء للصدور السقيمة ولقاح للعقول العقيمة»، وعند المخالفين كذلك من نطق بنفس هذه الحقيقة، وأحدهم ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه: «وما أقول في رجلٍ تُعزى إليه كل فضيلة، وتنتهي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة؛ فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عذرها، وسابق مضمارها، ومُجري حلبتها، كلّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى، وقد عرفت أنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهي؛ لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات؛ فكان هو أشرف العلوم، ومن كلامه -عليه السلام- أُقتبس، وعنه نُقل، وإليه انتهى، ومنه ابتدء؛ فإنّ المعتزلة الذين هم أهل التوحيد والعدل، وأرباب النظر، ومنه تعلّم الناس هذا الفن تلامذته وأصحابه؛ لأنّ كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبدالله بن محمد الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه -عليه السلام-، وأما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري، وهو تلميذ أبي علي الجبائي، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة؛ فالأشعرية ينتهون بأخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم وهو علي بن أبي طالب -عليه السلام-، وأما الامامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر».