1 نوفمبر 2016
كادت مجزرة كربلاء الدامية أن تقضي على الوجود الشيعي كلّّية حيث لم ينجو منها من الأئمة الأطهار إلّا الإمام زين العابدين عليه السلام وابنه الباقر عليه السلام على أثرٍ (1) وكان صغيراً. ثم تتابعت حملات الإبادة للشيعة بعد الطّفّ وأدت تداعياتها في جملة ما أدت إليه إلى ارتداداتٍ جماعية حتى لم يبقى من الشيعة إلّا ثلاثة رجالٍ فقط. وذلك ما رواه المفيد والكشّي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ارتدّ الناس بعد الحسين إلّا ثلاثة: أبو خالد الكابلي ويحيى بن أم الطويل وجُبير بن مطعم ثم إن الناس لحقوا وكثروا، وكان يحيى بن أم الطويل يدخل مسجد رسول الله ويقول: كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً (2). وتمثلت مقاومة الأئمة الأطهار عليهم السلام لحملات الإبادة هذه بإعادة بناء وتجديد الوجود الشيعي، وكانت إحدى أهم طرقهم في هذا الشأن بعث حركة تدوين العلم والحديث والآثار الشريفة، مع حثّ أصحابهم على ضبط ذلك وثبته في الصحف وعرضها من ثَمَّ عليهم للنظر فيها وتصحيحها. وهو ما تدل عليه روايات، منها:
- ما رواه الكليني عن أبي حمزة الثمالي قال: كان الإمام علي بن الحسين إذا تكلم في الزهد ووعظ أبكى من بحضرته، وقرأت صحيفةً فيها كلام زهد من كلام علي بن الحسين وكتبت ما فيها، ثم أتيت علي بن الحسين فعرضت ما فيها عليه فعرفه وصححه. وكان ما فيها: بسم الله الرحمن الرحيم كفانا الله وإياكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبارين، أيها المؤمنون لا يفتننّكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في هذه الدنيا (3) - إلى آخر الصحيفة المقدسة.
- ما رواه الكليني عن المفضل بن عمر قال: قال لي أبو عبد الله: اُكتب وبُثّ علمك في إخوانك فإن متّ فأورث كتبك بنيك فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلا بكتبهم (4).
- ما رواه عاصم بن حميد الحنّاط (5) عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد الله فقال: دخل علي أُناس من أهل البصرة فسألوني عن أحاديث فكتبوها، فما يمنعكم من الكتاب؟ أما إنكم لن تحفظوا حتى تكتبوا (6).
- ما رواه الطبري الإمامي عن أبي بصير أنه قال له الصادق عليه السلام في حديث تعداد أصحاب المهدي عليه السلام: إنك لا تحفظ فأين صاحبك الذي يكتب لك؟ قلت: أظن شغله شاغل وكرهت أن أتأخر عن وقت حاجتي (7). فقال لرجل في مجلسه: اُكتب له، هذا ما أملاه رسول الله على أمير المؤمنين وأودعه إياه من تسمية أصحاب المهدي عليه السلام (8) - إلى آخر الحديث (9).
- ما رواه الكليني عن عرض أبي عَمرو المتطبّب كتابه في الديات على الصادق عليه السلام، وذلك قوله: عرضته على أبي عبد الله فقال: أفتى أمير المؤمنين فكتب الناس فتياه وكتب به أمير المؤمنين إلى أمرائه ورؤوس أجناده، فمما كان فيه: إن أُصيب شفر العين الأعلى فشُتر فديته ثلث دية العين (10) - إلى آخر الحديث (11).
- ما رواه النجاشي أن عبيد الله بن علي الحلبي صنّف الكتاب المنسوب إليه وعرضه على أبي عبد الله عليه السلام وصححه (12). قال عند قراءته: أترى لهؤلاء مثل هذا؟ (13). وفي رواية الشيخ: قيل إنه عُرض على الصادق فلما رآه استحسنه وقال: ليس لهؤلاء - يعني المخالفين - مثل هذا (14).
- ما رواه الطوسي عن علي بن علي الخزاعي (15) قال: حدثنا أبو الحسن علي بن موسى الرضا بطوس إملاءً (16) في رجب سنة ثمان وتسعين ومائة. قال: حدثني أبي موسى بن جعفر (17) - إلى آخر الرواية.
- ما رواه الصفار عن حمزة بن عبد الله الجعفري قال: كتبت في ظهر قرطاس أن الدنيا متمثّلة للإمام كفلقة الجوزة فدفعته إلى أبي الحسن (18) وقلت: جعلت فداك إن أصحابنا رووا حديثاً ما أنكرته غير أنّي أحببت أن أسمعه منك. قال: فنظر فيه ثم طواه حتى ظننت أنه قد شقّ عليه ثم قال: هو حقٌّ فحوِّله إلى أديم (19)(20).
- ما رواه الكليني عن علي بن أسباط أنه قال للرضا عليه السلام في حديث تفسير الكنز (21): جعلت فداك أريد أن أكتبه. فضرب والله يده إلى الدواة ليضعها بين يدي فتناولت يده فقبلتها وأخذت الدواة فكتبته (22)(23).
- ما رواه الكليني عن ابن فضّال ويونس بن عبد الرحمن قالا: عرضنا كتاب الفرائض عن أمير المؤمنين على أبي الحسن الرضا فقال: هو صحيح (24)(25).
- ما رواه الكشي عن يونس بن عبد الرحمن في حديث أنه قال: أتيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر ووجدت أصحاب أبي عبد الله متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبهم فعرضتها من بعد على الرضا فأنكر منها أحاديث (26)(27).
- ما رواه الكليني عن محمد بن الحسن بن أبي خالد شينولة قال: قلت لأبي جعفر الثاني: إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وعن أبي عبد الله وكانت التقية شديدةً فكتموا كتبهم ولم تروى عنهم، فلما ماتوا صارت الكتب إلينا. فقال: حدّثوا بها فإنها حقٌّ (28)(29).
- ما رواه النجاشي عن الحسن بن محمد بن الوجناء أبو محمد النصيبي (30) قال: كتبنا إلى أبي محمد (31) نسأله أن يكتب أو يخرج إلينا كتاباً نعمل به، فأخرج إلينا كتاب عمل. قال الصفواني (نَسَخْتُه، فقابل به كتاب ابن خانبة زيادة حروف أو نقصان حروف يسيرة (32)(33).
نتيجة الحث المتواصل من الأئمة الأطهار عليهم السلام على الكتابة التزم أصحابهم بتدوين كل ما يصدر عن ساحة القداسة من أحاديث أو أحكام أو أحوال حتى تكون مقرِّبة إلى الحفظ والضبط ومبعِّدة عن عروض النسيان أو السهو أو الخلط. وصارت هذه عادة الخاصة من الأصحاب إذ يحضرون في مجلس الإمام مع ألواحهم وأقلامهم، كما تشير إليه رواية دعاء الجوشن الصغير التي رواها السيد ابن طاووس بطرقه عن جده شيخ الطائفة الطوسي بسنده عن أبي الوضّاح محمد بن عبد الله بن زيد النهشلي عن أبيه: كان جماعة من خاصة أبي الحسن عليه السلام من أهل بيته وشيعته يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس (34) لِطاف (35) وأميال (36) فإذا نطق أبو الحسن عليه السلام بكلمة أو أفتى في نازلة أثبت القوم ما سمعوا منه في ذلك. فسمعناه وهو يقول في دعائه: شكراً لله جلت عظمته، إلهي كم من عدو انتضى علي سيف عداوته (37) - إلى آخر الدعاء الشريف.
كما تشير إلى ذلك رواية الكشي عن عبد الله بن بُكير قال: دخل زرارة على أبي عبد الله عليه السلام فقال: إنكم قلتم لنا في الظهر والعصر على ذراع وذراعين (38)، ثم قلتم: أبرِدوا بها في الصيف، فكيف الإبراد بها؟ وفتح ألواحه ليكتب ما يقول (39)، فلم يجبه أبو عبد الله عليه السلام، فأطبق ألواحه وقال: إنما علينا أن نسألكم وأنتم أعلم بما عليكم، وخرج (40)(41).
----------------------------------------
(1) أي: على قول مأثور.
(2) الإختصاص لمحمد بن محمد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد، ص٧١-٧٢، طبعة بيروت، ٢٠٠٩م، و: رجال الكشي ص١١٥ في ترجمة يحيى بن أم الطويل برقم ٥٧
(3) الكافي للكليني، ج٨ ص١٢-١٣ ح٢
(4) نفس المصدر، ج١ ك١ ب١٧ ص٣٠ ح١١
(5) هو صاحب الإمامين الباقرين الصادقين صلوات الله عليهما، وهو صاحب أصل من الأصول الأربعمائة.
(6) بحار الأنوار للمجلسي، ج٢ ب١٩ ص١٥٣ ح٤٧
(7) أي: موعده عند الإمام عليه السلام.
(8) دلائل الإمامة للشيخ محمد بن جرير الطبري الإمامي، ص٣٠٢، طبعة بيروت، ١٩٨٨م
(9) يدل هذا الأمر على أن الإمام عليه السلام بلغ من اهتمامه بحركة التدوين أنه أمر وكلّف أحد الحاضرين بأن يكتب لابي بصير.
(10) الكافي للكليني، ج٧ ك٤ ب٢٠٩ ص٢١١-٢١٢ ح٢
(11) هذا الحديث يثبت جملة أمور: أولاً: إنّ العرض على الإمام عليه السلام. فقد كان من عادة أصحاب الأئمة عليهم السلام أن يعرضوا الأصول والمصنفات التي يكتبونها على الأئمة؛ وثانياً: أنه كان لأمير المؤمنين عليه السلام أصحاب يكتبون فتياه؛ وثالثاً: لم يكتفي أمير المؤمنين عليه السلام بمن كتب عنه من جلسائه وإنما هو بنفسه كتب فتياه إلى أمرائه ورؤوس جنده.
(12) أي: قام الإمام عليه السلام بتصحيح أخطاؤه. على أنه يمكن فهم (صحّحه) أن الإمام عليه السلام حكم عليه بالصحة، وذلك من خلال رواية الشيخ حيث قال (استحسنه).
(13) رجال النجاشي، ص٢٢١-٢٢٢ رقم ٦١٢
(14) الفهرست للطوسي، ص٣٠٥ رقم ٤٦٧
(15) وهو أخو دعبل الخزاعي.
(16) أي: الإمام يحدثهم وهم يملون ويكتبون.
(17) أمالي الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، ص٣٥٨، طبعة طهران، ١٣٨١هـ
(18) وهو الإمام الرضا عليه السلام، بدلالة الراوي.
(19) بصائر الدرجات للصفار، ج٨ ب١٤ ص٤٥١
(20) هذا يثبت أن الأصحاب كانوا يكتبون الأحاديث ثم يعرضونها على الإمام عليه السلام لينظر فيها.
(21) أي: الكنز المذكور في القرآن الكريم للغلامين الذي كان تحت الجدار.
(22) الكافي للكليني، ج٢ ك١ ب٣٠ ص٤٠ ح٩
(23) فانظر كيف أن الإمام عليه السلام بنفسه أخذ الدواة بيده ليكتبه علي بن اسباط، وهذا يدل على أن الأئمة عليهم السلام كانوا يهتمون بالتدوين ويؤيدون من يدون.
(24) نفس المصدر، ج٧ ك٤ ب٢٠٩ ص٢١١ ح١
(25) هذا يدل على أنه كان من عادة الأصحاب عرض كتب المنسوبة للأئمة السابقين على الأئمة اللاحقين للنظر فيها وتصحيحها.
(26) رجال الكشي ص١٩٣-١٩٥ ح٣ في ترجمة المغيرة بن سعيد برقم ٩٨
(27) هذا يدل على أنه كان من عادة اصحاب الإمامين الباقرين الصادقين عليهما السلام التدوين والكتابة بحيث كانت كتبهم متوافرة إلى ان يأتي شخص كان معاصراً للإمام الرضا عليه السلام يقدم عليهم في العراق فيرى كتبهم ويأخذها معه ليعرضها على الإمام عليه السلام. ويدل هذا أيضاً على أن الأئمة كانوا يهتمون بإنكار ما هو منكر من الأحاديث.
(28) الكافي للكليني، ج١ ك١ ب١٧ ص٣١ ح١٥
(29) هذا يدلنا على أنه كانت هنالك كتب متظافرة لأصحاب الأئمة عليهم السلام لكنها كانت مكتومة بسبب التقية الشديدة فلم تروى عنهم، فتوارثها الأصحاب من بعدهم - وأحدهم الراوي: شينولة - فذهب إلى الإمام الجواد عليه السلام وسأله عنها هل يبقيها مكتومة، فأمره الامام عليه السلام بأن يحدث بها.
(30) لعله الأصح: الخُصيبي.
(31) وهو الإمام الحسن الزكي العسكري صلوات الله عليه.
(32) رجال النجاشي، ص٣٣١ في ترجمة محمد بن أحمد بن عبد الله بن مهران برقم ٩٣٥
(33) هذا يدل على أنه كان من عادة أصحاب الأئمة أن يكتبوا إلى الائمة ويطلبونهم أن يكتبوا إليهم كتب أعمال - تكون لهم مثل الرسائل العملية اليوم التي يتعلمها المكلّف ويتعبد طبقاً لما ورد فيها. ونَسْخ الصفواني الكتاب المذكور في الرواية ومقارنته إياه بكتاب آخر للأئمة عليهم السلام كان عند ابن خانبة يدل على أنه كان من عادة الأحصاب مقابلة النسخ والأصول فيما بينهم.
(34) الآبنوس نوع من أنواع الخشب من الهند.
(35) أي: ركيكة، لا سميكة
(36) أميال: جمع ميل، وهو القلم.
(37) مهج الدعوات ومنهج العبادات للسيد علي بن جعفر بن طاووس، ص٢٦٨، طبعة بيروت، ١٩٩٤م
(38) أي: قلتنم أن نشرع في صلاة الظهر اذا صار ظل الشاخص بمقدار الذراع وأن نشرع بصلاة العصر اذا صار بمقدار الذراعين. علماً أن الذراع والذراعين ليسا محمولين على وقت بدء الصلاة، اذ أن وقت بدء الصلاة بمجرد الزوال وهو يتحقق حيث يصل ظل الشاخص إلى أقل مقدار ويبدأ بالازدياد - بالنسبة للبلدان المتعارفة. وقد قال لهم الإمام عليه السلام أن يصلوا بهذا المقدار لكي يكون لديهم وقت للنوافل.
(39) وهذا محل شاهدنا.
(40) رجال الكشي ص١٣٢ ح١٩ في ترجمة زرارة بن أعين برقم ٦٣
(41) لعل سبب امتناع الإمام عليه السلام من مجاوبة زرارة أن هذا الأمر كان اختباراً لزرارة أيسلم أم لا، إذ قد ورد عنهم صلوات الله عليهم أنه علينا أن نسألهم وأن لهم أن يجيبونا وأن لا يجيبونا. ويرجّح ذلك ما نجده في تتمة الرواية من أن أبو بصير دخل على الإمام عليه السلام وأمره الإمام عليه السلام أن يذهب إلى زرارة ويعطيه الجواب.