1 نوفمبر 2016
قبل الشروع في تفاصيل مسائل العلوم الثلاثة يجدر أن ننبه الى أمور خمسة:
التنبيه الأول: الداعي للتمييز بين الأحاديث
قامت سيرة العقلاء على التحرّي فيما يصلهم من أنباء وأخبار، وكلما تقادمت السنون على تلك الأخبار كلما كان ذلك أدعى للتحرّي. فإذا كانت تلك الأخبار مما يكتنف العمل بها أو إهمالها خطراً، وكانت متكثّرة مما يباين بعضها بعضاً، وعُلم إجمالاً أن بعضها مكذوب وبعضها الآخر محرّف أو مغلوط، كان ذلك أدعى وأدعى للتحرّي والتدقيق والتحقيق (1). وأنباء الإسلام وأخباره المتضمنة لتعاليمه وأحكامه قد مضت عليها القرون المتمادية، وهي تنقسم إلى قسمين رئيسيين هما القرآن والسنة (2). أما القرآن فقد ثبت أنه مقطوع الصدور سالم من الزيادة والنقصان والتحريف، لا فحسب لأنه سبحانه قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُوْنَ (3)، بل لأن العالم لم يعرف كتابا مضبوطا بتواتر عبر القرون كالقرآن الحكيم ولا تُعرف له نسخة أخرى مباينة لمحتواه، وهذا يكفي في القطع بصدوره والاعتماد عليه (4).
وأما السنة فليست كذلك إذ ليس ثمة كتاب واحد مضبوط بتواتر لها وإنما هي مبثوثة في كتب شتى، وتناقلتها أقوام ورجال لا يحصون عدداً وكان فيهم المؤتمن والخؤون والضابط والغافل، وفيها من التناقض والتباين والاختلاف والاضطراب ما هو غير عزيز. فلابد إذن والحال هذه من التحرّي فيها وتمييز صحيحها من سقيمها (5). سيّما وقد عُلم إجمالا أن فيها المكذوب والموضوع والمحرّف والمغلوط (6)، وذلك لأنا وجدنا فيها قول صاحب الشريعة صلى الله عليه وآله: من كذب علي متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار (7)(8). ووجدنا فيها قول أمناء الشريعة عليهم السلام: إنا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا ويُسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس(9)(10). ولازم ذلك العلم بأن بعض ما في أيدينا من السنة مكذوب وهذا يستوجب تمييزه، إذ من الخطر العمل به لأنه قد يوردنا حياض الهلاك بمخالفة أمر المولى. كما من الخطر إهمال السنة كلها وتركها بدعوى الشك في كل ما جاء فيها لأن ذلك قد يوردنا حياض الهلاك أيضا بعصيان أمر المولى فضلا عن أن ذلك يُسقط الشرائع من رأسٍ (11). فلابد إذن من تنقيح هذا التراث بما يضمن سلامة الدين والدنيا، وذلك لا يكون إلا بإعمال علوم الرواية والدراية والرجال. وقد علّل أمير المؤمنين صلوات الله عليه اختلاف ما في أيدي الناس من الأخبار واضعاً أسس علم الحديث حين سأله سائل عن ذلك (12)، حيث قال عليه السلام:
إنّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً وصدقاً وكذباً وناسخاً ومنسوخاً وعامّاً وخاصّاً ومُحكماً ومتشابهاً وحفظاً ووهماً، ولقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله على عهده حتى قام خطيباً فقال: ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. وإن ما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس: رجل منافق مظهر للإيمان متصنع بالإسلام لا يتأثّم ولا يتحرّج، يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله متعمداً. فلو علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه ولم يصدّقوا قوله، ولكنهم قالوا: صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله، رآه وسمع منه ولقف عنه، فيأخذون بقوله. وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك ووصفهم بما وصفهم به لك، ثم بقوا بعد فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة الى النار بالزور والبهتان فولّوهم الأعمال وجعلوهم حكّاماً على رقاب الناس فأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عُصم. فهذا أحد الأربعة. ورجل سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئاً لم يحفظه على وجهه فوهم فيه ولم يتعمّد كذباً، فهو في يديه ويرويه ويعمل به ويقول: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله. فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوا منه ولو علم هو أنه كذلك لرفضه. ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئاً يأمر به ثم إنه نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ. فلو علم أنه منسوخ لرفضه ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه (13).
وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله صلى الله عليه وآله، مبغض للكذب خوفاً من الله وتعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وآله ولم يهم بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه، فهو حفظ الناسخ فعمل المنسوخ وحفظ المنسوخ فجنب عنه وعرف الخاص والعام والمحكم والمتشابع، فوضع كل شيء موضعه. وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله الكلام له وجهان فكلام خاص وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله به ولا ما عنى رسول الله صلى الله عليه وآله، فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعنى وما قُصد به وما خرج من أجله. وليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله من كان يسأله ويستفهمه حتى إن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأله حتى يسمعه وكان لا يمر بي من ذلك شيء إلا سألته عنه وحفظته منه، فهذه وجوه ما عليه الناس في اختلافهم وعللهم في رواياتهم (14).
----------------------------------------
(1) لماذا نميّز بين الأحاديث ولا نأخذ كلها بحد سواء في الاعتبار؟ سيرة العقلاء كانت في التحرّي فيما يصلهم. وكلما صار ما وصل إلينا قديما أكثر بمرور الأيام والسنين والعصور كان التحري لها أدعى وأوجب وأهم. واذا كان العمل بالمنقول أو إهماله فيه خطر علينا من جهتي العمل والإهمال… فمثلاً اذا عملنا بمنقول باطل أو أهملنا منقول حق فنقع في كلتا الحالتين في العصيان أو الهلاك... واذا كانت المنقولات متكثرة ويناقض بعضها البعض الآخر وفيها منقولات مكذوبة لا أي أصل لها، وفيها محرّفة أي لها أصل لكنها مغيَّرة، وفيها مغلوطة أي الناقل قد سمع القول لكنه سهى أو غلط في نقلها أو نقلها سليمة إلى شخص آخر غلط في نقلها مما يغيّر معناها خطأً من غير قصد... فكان الداعي للتحري أدعى وأكثر وأوجب. فنحتاج لذلك إلى علم الرواية والدراية والرجال للتمييز بين المنقولات ولتكون لدينا حجة أمام الله يوم الحساب، فنقول: إنا وصلنا من خلال هذه العلوم ومن خلال البحث والتدقيق إلى أن هذا الخبر يجب العمل به فعملنا به، أو أنه يجب تركه فلم نعمل به. ونحن نطبّق هذه السيرة فنتحرّى فيما وصلنا من أنباء وأخبار الإسلام التي مضت عليها قرون متمادية وجائتنا.
(2) أخبار الإسلام - بمعنى الخبر مطلقا، لا معناه الخاص - القرآن والسنة.
(3) الحجر: ١٠
(4) نقطع أي نجزم بصدور القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وآله عن الله تعالى وبسلامته. ولا نقطع بصدوره وسلامته لمجرد قوله تعالى في كتابه بل لأنه لا يوجد كتاب مضبوط بتواتر مثله ولا توجد نسخة أخرى تباينه. أما غيره من الكتب ككتب اليهود والنصارى فهي غير ضابطة بتواتر وتوجد نسخ متباينة لها.
(5) السنة ليست كالقرآن، فهي منتشرة في كتب شتى وتناقلتها أناس كثيرون ذو ثقافات وديانات وخلفيات عديدة، وكان فيهم صادقون وكاذبون ومحرفون وغافلون، وفي السنة تناقض واضطراب كثير، فيجب التحرّي فيها وتمييز الصحيح عن السقيم منها. النسخة الصحيحة للسنة موجودة عند الإمام صاحب العصر عليه السلام وهي ليست بين أيدينا، وذلك لتتمة الإمتحان الإلهي.
(6) المغلوط لا يشترط أن يكون فهمٌ مغلوطٌ، بل معناه أيضا أنه قد يصل إلى راوي معين نسبها إلى الأئمة غلطاً، أو أنه يوجد بالفعل حديث عن الأئمة لكن بسبب طروء تبدّل الأحوال على النقلة تغير المعنى غلطاً، أو أن الغلط يكون من فعل النسّاخ. مثال للغلط: لدينا مشكلة في تحديد يوم شهادة الزهراء عليها السلا. احد اسباب نشوء الاختلاف في هذا الأمر هو وجود رواية واحدة بلفظين: (خمسة وسبعين) و (خمسة وتسعين) ولكن لما تلقّاها المدوّنون فقرأوا مثلاً كلمة (سبعين) كـ (تسعين) أو العكس بسبب عدم وجود التنقيط في ذلك الزمان، فكلتا الكلمتين نفس الرسم بالخط الكوفي القديم.
(7) قريب منه في المحاسن لمحمد بن خالد البرقي، ج١ ك٣ ص٢٠٩ ح١٥٧، طبعة قم المقدسة، ٢٠١١م
(8) قول النبي صلى الله عليه وآله يثبت أنه سيكون هناك من يكذب عليه، وإلّا فلا وجه للتحذير والنهي عما لا يُتوقَّع.
(9) اختيار معرفة الرجال، المشتهر برجال الكشي، وهو (أي الكشي) محمد بن عمر بن عبد العزيز، تأليف شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي، ص٢٥٥ ح٥٤٩، طبعة قم المقدسة، ١٤٢٧هـ
(10) قول الأئمة عليهم السلام، يعلمنا بوجود سنّة مكذوبة، وهذا يستوجب تمييزها لأن العمل بالمكذوب خطر قد يهلكنا لأنه يخالف أمر الله تعالى، وإهمال كل السنة وترك العمل بها بدوعى الشك فيها يهلكنا أيضا لأنه عصيان لأمره تعالى، سيما أنه يسقط كل الأحكام فلا يُعرف كيفية الصلاة، والحج، والنكاح، وغيرها.
(11) تنبّه: هناك فرق بين المخالفة والعصيان، إذ المخالفة بغير قصد، أما العصيان فهو أن المرء يعلم بتوجه الأمر ومع ذلك يعصيه.
(12) لابد من تنقيح التراث الإسلامي بما يضمن له سلامة الدين والدنيا، وذلك من خلال العمل بعلم الحديث. وقد علّل أمير المؤمنين عليه السلام اختلاف الأخبار بين الناس ووضَعَ أسس علم الحديث، كما هو الواضع للعلوم كلها صلوات الله عليه.
(13) هذا يسمى التمييز بالأحدثية، وهو إحدى طرق علاج التعارض بين الراويات، وله صلة بعلم أصول الفقه أيضاً، ولكن نحن ندرجه في علم الحديث لارتباطه الوثيق ولابتنائه على ما نحن فيه.
(14) من كلام له عليه السلام وقد سأله سائل عن أحاديث البدع وعما في أيدي الناس من اختلاف الخبر. روي في نهج البلاغة للشريف الرضي السيد محمد بن الحسين، ص٣٧٦-٣٧٧، طبعة قم المقدسة، ٢٠٠٠م.