1 محرم الحرام 1439
كل خطيب يدعو في هذه الأيام باسم سيد الشهداء عليه السلام؛ عليه أن ينتبه إلى عمامته. لا إلى نوعية قماشها وطرازها؛ وحجمها وشكلها؛ وعدد طيَّاتها أو «كسراتها»؛ وكيف تتدلى خصلات قصاص شعره منها - وهي أمور يبالغ فيها مَن أصيبوا بداء المنذر بن الجارود العبدي - بل أن ينتبه إلى ما تمثِّله العمامة من منهج؛ وإلى أيٍّ تنتمي حقًّا.
هذه العمامة التي يعتمرها الخطيب؛ يفترض أن تكون عمامة الحسين عليه السلام، أي أن يمضي الخطيب على منهاجه صدقًا، فلا يرى الناسُ أن قوله يخالف فعله؛ وأن ما يدعو إليه حين اعتلائه المنبر سرعان ما يتغيَّر حين نزوله عنه. إنه إنْ لم يكن هكذا؛ كانت عمامته عمامةً أخرى؛ ذات انتماء آخر. قد تكون مثلًا؛ عمامة ابن عباس.
كيف يمكن للخطيب أن يكتشف ذلك؟ فليسأل نفسه: هل أستحيي؟
وليس القصد استحياؤه من ارتكاب ما يشين؛ فذلك أمر غير مذهول عن أهميته عند الخطيب. إنما القصد ما ابتُلي بالغفلة عنه معظم خطبائنا على ما نرى؛ وهو الحياء من ملاقاة الله عز وجل وقد خلت صحيفة الأعمال من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولكأني بكثيرٍ من الإخوة الخطباء يضجُّون قائلين: ظَلَمْتَنا! فما من مجلس نقرأ فيه إلا وقد أمرنا فيه بمعروف ونهينا فيه عن منكر، فكيف تزعم أن صحيفة أعمالنا قد خَلَتْ بعد هذا؟
أقول لهؤلاء الإخوة: ما قولكم فيمن يصلي أربع صلوات فقط في اليوم والليلة؛ فيترك واحدة ولتكن الفجر مثلًا؛ أ فهل يُكتب عند الله مصلِّيا؟ لا؛ أبدا. كذلك ما نحن فيه؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالصلاة؛ هو واجب شرعي لا يجوز أن يؤدَّىٰ في مورد ويُترك في آخر بلا عذر. إنك لن تُكتب عند الله سبحانه ممن أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر حتى لو أمرتَ مثلًا بالصدق والأمانة والعفة وعشرات مصاديق المعروف؛ ونهيتَ عن الكذب والخيانة والفحش وعشرات مصاديق المنكر؛ ما دمتَ تركتَ مصداقًا واحدًا محقَّقًا وضروريًّا من أيٍّ منهما. كلا! لن تُكتب حينئذ ممن أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.
هنالك في محيطنا ما يستدعي أمرًا بمعروف ونهيًا عن منكر؛ ولكن قليلًا من يتصدَّى له، هذا إنْ تصدَّى متصدٍّ أصلًا. والسر في ذلك هو الخوف من عواقب معركةٍ ما قد تنشب جرَّاء التصدي. إنهم يريدون أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر شريطة أن يكونوا مرتاحي البال! لا يتصادمون مع أحد ولا يتصادم معهم أحد، لا يخسرون أحدًا ولا يغضب منهم أحد، ولذا تجدهم في خطبهم يختارون من مصاديق المعروف والمنكر ما يدركه كل أحد! فتسمعهم يأمرون بالحجاب مثلًا كمعروف؛ وينهون عن الخمر مثلًا كمنكر. أما أن يأمروا بهدم أصنام الطغاة مثلًا كمعروف؛ أو أن ينهوا عن تملُّق المنحرفين مثلًا كمنكر؛ فهذا ما لا تسمعهم يقولونه، مع أن الناس في غفلة شبه تامة عنه.
إنه بلا (معارك) لا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تامَّيْن. وهؤلاء الذين تركوا ذلك في الموارد المتحققة فرارًا من المواجهات والتصادمات؛ حالهم كحال تارك بعض الصلاة. لا يمكن أن يُكتبوا عند الله من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وإن أمروا بألف معروف ونهوا عن ألف منكر.
إن ابن عباس كان موقفه من ثورة سيد الشهداء (عليه السلام) معروفًا؛ وهو المعارضة. تارةً بلسان الشفيق؛ وأخرى بلسان الحكيم؛ وثالثة بلسان الناصح؛ ورابعة بلسان الزاجر. كان يطرح من (المبررات العقلائية) الزائفة ما يطرحه اليوم كثيرٌ من المعممين للتحلُّل من أداء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في موارد المواجهة والصدام. فبماذا أجابه أبو الأحرار أرواحنا فداه؟ لقد قال له: «خلِّ عني يابن عباس؛ فإني أستحيي من ربي عز وجل أن ألقاه ولم آمر في أمتنا بمعروف ولم أنهَ عن منكر»! (الأمالي الخميسية للشجري ص186)
هل تستحيي من ربك كما كان الحسين (عليه السلام) يستحيي من ربه أيها الخطيب؟ إنْ كنتَ فعمامتك عمامة الحسين صلوات الله عليه؛ وإلا فاعلم أن ما تحمله على رأسك ليس سوى عمامة ابن عباس.
أقول هذا وأنا من أكثر الخلق تقديرًا لدور الإخوة خطباء المنبر الحسيني المقدس في التبليغ والدعوة وإشاعة الثقافة العاشورائية. فليفهُمَنَّ كلامي جيدا إن شاء الله تعالى، فإنما «خير إخوانك مَن عنَّفكَ في طاعة الله» كما قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه. (غرر الحكم ٤٩٨٦)
.. عظم الله أجورنا وأجوركم.