7 محرم الحرام 1439
إذا أراد المرء أن يكون واقعيًّا فليس له إلا أن يسلِّمَ بأن الخطوة التي أقدم عليها الإمام الحسين (صلوات الله عليه) كانت أعظم فتنة فرَّقت الأمة ولا تزال تفرِّقها إلى يومها هذا، فلولا الطف لما انقسم الناس وتجذَّر فيهم كل هذا الانقسام المتجدد مع كل عاشوراء في كل سنة.
صحيحٌ أن الأمة كانت منقسمة منذ يوم السقيفة الأسود وما تلاه من أحداث جسام؛ بَيْدَ أن هذا الانقسام بدأ بالتلاشي مع رحيل جيل الأشداء من الرافضة الأوائل، فلقد كانوا يجاهرون بالحق ويخوضون الغمرات والمواجهات حتى استشهدوا رحمة الله عليهم. وخَلَفَ من بعدهم خَلْفٌ أضاعوا هذه الطريقة وركنوا إلى الدعة والسكينة والتسليم بالأمر الواقع حتى خذلوا إمامهم الحسن (عليه السلام) وألجأوه إلى أن يهادن معاوية لعنه الله. ثم مات هؤلاء أيضا وخلى الجو لخط السقيفة. وطال زمان معاوية بما صاحبه من ترهيب وترغيب، فخضع الناس له إما رهبةً وخوفًا؛ وإما رغبةً وطمعًا.
ونشأت أجيال جديدة لم تعش بواعث الانقسام ولا سمعت تفاصيلها، ولا أدركت حقيقة المعركة القاسمة بين خط النبوة وخط السقيفة. وهكذا أظلمت الدنيا، وخفت شعلة الرفض، ودخل الناس في (دين معاوية) أفواجا! واجتمعوا في أمة واحدة منذ (عام الجماعة) حتى لم يعد هنالك انقسام، أو إنْ كان فلم يَعْدُ كونه انقسامًا ضعيفًا باردًا هو في طريقه إلى الزوال والتلاشي.
وإذا كان الناس قد اتحدوا بدخولهم في (دين معاوية) والخضوع لخط السقيفة؛ فلا بد إذن من هدم هذه الوحدة الشيطانية! لا بد من بث الفرقة! لا بد من إحداث الانقسام! ليعود الناس من جديد إلى (دين محمد صلى الله عليه وآله) ويتَّحِدون على أساس خط النبوة ولو بعد حين. وهذا ما نهض به سيد الشهداء صلوات الله عليه، فكانت ثورته المجيدة أعظم ما ينسف تلك الوحدة الشيطانية المقرفة، وقد دقَّتْ بينها من الأسافين الصلبة ما يحول دون اكتمالها إلى يوم القيامة. وها هو الواقع بين يديك؛ كلما أوشك عِقْدُ هذه الوحدة على الاكتمال؛ جاءت ذكرى عاشوراء فقطعته ومزَّقته! ذلك لأن هذه الذكرى تستعيد كل موجبات الانقسام ودواعيه منذ يوم السقيفة الأسود لا محالة.
هكذا جعل الحسين (صلوات الله عليه) الانقسام المبدئي حارًّا؛ نشطًا، هادرًا، يتجدد مع تجدد الزمان. ولا عجب؛ فهو وارث الأنبياء (صلوات الله عليهم) الذين بعثهم الله سبحانه بهذا الدور العظيم؛ دور تمزيق كل أمة واحدة متحدة إذا كان اتحادها قائمًا على أساس الباطل. يقول عزَّ من قائل: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّـهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّـهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ». (البقرة: 214)
واليوم تحاول ثلة مؤمنة من الرافضة الأبرار السير على خطى أبي الأحرار صلوات الله عليه، فلا بد من أن يكون منطق كل فرد منهم منطقًا حسينيًّا حين يُتَّهَمُ بإيقاع الفتنة والتفرقة والشقاق بين الأمة، أي أن يرد بمثل ما ردَّ به إمامه (عليه السلام) عندما اتُّهِمَ بعين هذه التهمة. فما هو هذا المنطق؟
حين هَمَّ سيد شباب أهل الجنة (عليه السلام) بثورته منطلقًا من مكة المكرمة؛ جاءه مبعوثون من الوالي الأموي عمرو بن سعيد بن العاص، وقد سلَّموه منه كتابًا جاء فيه: «إني أعيذك بالله من الشقاق، فإني أخاف عليك فيه الهلاك»!
هكذا كان أبو عبد الله (عليه السلام) يُرمى بأنه مُقبِلٌ على إحداث الشقاق في الأمة، ويُخَوَّف بأن في ذلك هلاكه! والأنكى أن هذه الكلمات لم يكتبها الوالي الأموي بنفسه، بل كتبها عنه أحد أقارب الإمام عليه السلام؛ وهو عبد الله بن جعفر؛ زوج العقيلة زينب عليها السلام! فلقد اتفق مع الوالي أن يكتب هو الكتاب ويأتي به إليه ليختمه بخاتمه وكأنه صادر عنه، ثم يكون أحد أولئك المبعوثين لثني الإمام (عليه السلام) عن القيام بواجبه الإلهي. وهذا ما حصل بالفعل، فلقد أدَّى هذا الخاذل المخذول المهمة مبعوثًا عن السلطة الأموية!
لنتخيَّل بشاعة الموقف وقُبح المقام. رجلٌ هاشمي هو ابن عم الإمام وزوج أخته؛ يعارض حجة الله عليه وعلى جميع الخلق! يعتبره محدِثًا للشقاق والفتنة في الأمة! موشكًا على التهلكة! ويتفق سرًّا مع الوالي الأموي على أن يكتب هذا في كتاب باسمه! ويأتي إلى الإمام ممثِّلًا عن يزيد بن معاوية وعامله عمرو بن سعيد بن العاص!
تُرى؛ لماذا سلك هذا الرجل هذا المسلك الشائن؟ إنه لشيوع مرض رُهاب الشرخ والانقسام؛ حرصًا على دنيا لا بقاء لها إلا مع (وحدة) مهما كانت، على حقٍّ أم باطل، فالمهم أن تحقق لطلاب الدنيا هؤلاء استقرارًا يؤمِّن مصالحهم ويضاعف ثرواتهم ويحقق مآربهم. هذا المرض لم يُصَبْ به المخالفون آنذاك فقط؛ بل ولا عوام الشيعة فقط؛ بل أصيب به حتى أولئك الذين كانوا من أقرب أقارب الإمام الحسين عليه السلام، كهذا الصهر الضعيف الجبان.
لقد أتى هذا والذين معه يحذِّرون الإمام (عليه السلام) من الفتنة والشقاق والانقسام، وناوشه بعضهم ثم نادوه قائلين: «يا حسين! ألا تتقي الله! تخرج من الجماعة وتفرِّقُ بين هذه الأمة»! فكيف كان جواب أبي الأحرار صلوات الله عليه؟
هذا هو الجواب الذي يجب أن تحفظه أنت أيها الرافضي الحر، الجواب الذي يجب أن يكون منطقك على الدوام، الجواب الذي ينبغي أن تكرره كلما اتهمك المتهمون بالفتنة؛ خاصة إن كانوا ممن على شاكلة عبد الله بن جعفر في الداخل الشيعي.
أجبهم بجواب إمامك ريحانة المصطفى صلى الله عليه وآله: «أما بعد؛ فإنه لم يشاقق الله ورسوله مَن دَعَا إِلَى اللَّـهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ... لي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ»! (راجع مقتل أبي مخنف الأزدي ج1 ص70 وص154 وعنه تاريخ الطبري ج4 ص289 وص292)
.. عظم الله أجورنا وأجوركم.