27 محرم الحرام 1439
لم تدرك عامتنا - نحن معاشر الشيعة - بعدُ أن كثيرًا من مفاهيمنا المتداولة بيننا؛ الراسخة في أذهاننا؛ لا تمت بصلة إلى أئمتنا (عليهم السلام) والثقافة الأصيلة المستقاة منهم، وأنها في الحقيقة راجعة إلى أعدائهم ومخالفيهم، وإنما قد دخلت علينا وراجت بيننا لعوامل متعددة، أبرزها العامل النفسي، فلقد أصيبت النفسية الشيعية في الأزمنة المتأخرة بأمراض جعلتها ضعيفة أمام الآخر وثقافته؛ تتملَّق له وتماشيه.
المهم أنه تبعًا لهذا التبدُّلِ في المفاهيم تبدَّلتِ الألفاظ والتعابير، حتى صار كثيرٌ ممن يروْن أنفسهم من الشيعة؛ يتحدثون - غفلةً - بلسان معاوية ومنطقه!
هاك مثالًا على ما نقول؛ لعل الأكثرية الساحقة من خطبائنا اليوم تسمعهم يعبِّرون عن أبي بكر بـ (الخليفة الأول)، وكذا عن عمر بـ (الخليفة الثاني)، وهكذا عن عثمان بـ (الخليفة الثالث). فهل يا ترى انتبه هؤلاء الخطباء إلى هذه الحقائق التالية؟
(1) أن وصف هؤلاء الثلاثة بالخلفاء ينطوي على إقرار بشرعية خلافتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله! وهذا خروج عن التشيع الذي يقول ببطلان شرعية خلافة هؤلاء، وأن (الخليفة الأول) هو الإمام علي عليه السلام، و(الخليفة الثاني) هو الإمام الحسن عليه السلام، (والخليفة الثالث) هو الإمام الحسين عليه السلام، وهكذا وصولا إلى (الخليفة الثاني عشر) الإمام المهدي عليه السلام وعجل الله فرجه الشريف.
(2) أنه لم يصح عن أئمتنا (عليهم السلام) التعبير عن هؤلاء بالخلفاء إطلاقا، ولا سيما في غير ضرورات التقية، بل الوارد عنهم التعبير عن هؤلاء بالجور والطغيان والكفر والنفاق والضلال وما إلى ذلك مما امتلأت به مصادر أحاديث أهل البيت الأطهار صلوات الله عليهم. بل حتى في موارد التقية؛ كان الأئمة (عليهم السلام) كثيرًا ما يتركونها كما شهد به الحر العاملي (رضوان الله عليه) إذ قال: «ألا ترى أنهم عليهم السلام كثيرا ما كانوا يعملون بالتقية في جزئيات يسيرة من المستحبات والمكروهات ويتركون التقية في الكليات كذم أئمة الضلال ولعنهم». (الفوائد الطوسية ص468)
(3) أن أذن التاريخ لم تسمع بأن الشيعة الأوائل كانوا يعبّرون بمثل هذه التعابير عن هؤلاء الظالمين، ولا سيما في غير موارد الاضطرار والإكراه، فلا تجد أن أحد رجال الشيعة كان يخطب مثلا في جماعة من الموالين فيأتي على ذكر أبي بكر ويسمّيه (الخليفة الأول) عياذًا بالله! بل تجده إذا ذكره يصب عليه اللعنات والمطاعن والمذام صبًّا، فتلك كانت ثقافة الشيعة الأوائل، وتلك كانت لغتهم المتوارثة خلفًا عن سلف، حيث كانوا يقولون: «نحن نطعن في صلاة أبي بكر بالناس، وخلافة أبي بكر كانت بغير إجماع. ويقولون بكفر من أنكر إمامة علي. ويقولون: كان بلال وعمار بن ياسر يطعنان على أبي بكر وعمر. ويرمون أبا بكر وعثمان بالجبن». (مقدمة العثمانية للجاحظ ص6)
(4) أن التعبير عن أبي بكر بـ (الخليفة الأول) وعن عمر بـ (الخليفة الثاني) وعن عثمان بـ (الخليفة الثالث)؛ كل ذلك إنما كان لغة ومنطق معاوية! فقد جاء في رسالة من رسائله (لعنه الله) إلى أمير المؤمنين عليه السلام: «إن الله سبحانه اختص محمدًا عليه السلام بأصحاب أيدوه وآزروه ونصروه، وكانوا كما قال الله سبحانه لهم: ﴿أَشِدََّاءُ عَلَى اَلْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ فكان أفضلهم مرتبةً وأعلاهم عند الله والمسلمين منزلةً الخليفة الأول الذي جمع الكلمة ولَمَّ الدعوة وقاتل أهل الردة، ثم الخليفة الثاني الذي فتح الفتوح ومَصَّرَ الأمصار وأذلَّ رقاب المشركين، ثم الخليفة الثالث المظلوم الذي نشر الملة وطبَّقَ الآفاق بالكلمة الحنيفية. فلما استوثق الإسلام وضرب بجِرانه؛ عدوتَ عليه فبغيته الغوائل ونصبت له المكايد.. إلخ». (شرح النهج ج15 ص185)
فيا لتعاسة خطبائنا الذين يصعدون منبر علي عليه السلام؛ ويخطبون بلغة معاوية ومنطقه واصطلاحاته وتعابيره! ما أشبه ألسنتهم بلسان ابن آكلة الأكباد حين يصفون أبا بكر وعمر وعثمان بالخليفة الأول والخليفة الثاني والخليفة الثالث! خاصةً إذا ما أردفوا كلامهم بمدح طاغية كخامنئي مثلًا باعتباره حاكمًا يدعو للوحدة وجمع الكلمة لمواجهة المستكبرين والمستعمرين، فلكأنهم حينئذ يستنسخون كلام معاوية حين مدح الطاغية أبا بكر بقوله: «الخليفة الأول الذي جمع الكلمة ولَمَّ الدعوة وقاتل أهل الردة»!
هنالك تعبير آخر لا يقل قبحًا عن هذا التعبير؛ تجد أن كثيرًا من الخطباء والمعممين يستعملونه، وهو التعبير عن الحميراء بـ (أم المؤمنين عائشة)، وبعضهم - كحسن نصر الله - يغالي فيضيف كلمة (السيدة) أيضا. فهل انتبه هؤلاء إلى الحقائق التالية؟
(1) أنه لم يصح عن أئمتنا الأطهار (عليهم السلام) تسمية عائشة بأم المؤمنين، ولا كان شيء من تعظيمها أو تبجيلها جاريًا على ألسنتهم، فضلًا عن ذكرها بالسيادة، فإنهم (عليهم السلام) لم يذكروها إلا بما تستحق من الذم واللعن والطعن، كقول الصادق (عليه السلام) لجماعة من المخالفين من أهل البصرة: «عائشة عظيم جرمها؛ عظيم إثمها؛ ما اهرقت محجمة من دم إلا وإثم ذلك في عنقها». (نوادر المعجزات للطبري الصغير ص299)
(2) أن في الأخبار الشريفة نزع لقب (أم المؤمنين) من عائشة وانقطاع عصمتها بالنبي (صلى الله عليه وآله) لخروجها على أمير المؤمنين عليه السلام، كما في خبر المسعودي عن إمامنا الحسين صلوات الله عليه (إثبات الوصية ص173) وخبر سعد بن عبد الله الأشعري عن إمامنا الحجة صلوات الله عليه. (بحار الأنوار ج38 ص89)
(3) أن قوله تعالى: «وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ» لا يبيح تسمية عائشة بأم المؤمنين بعدما كفرت وأشركت، كما لا يبيح تسمية قتيلة بن قيس الكندية بأم المؤمنين بعدما كفرت وأشركت. ومن المعلوم عند الشيعة أن محاربة أمير المؤمنين (عليه السلام) هي بعينها محاربة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقوله: «يا علي حربك حربي»، ومحاربته (صلى الله عليه وآله) هي بعينها محاربة الله تعالى، ومَن يحارب الله تعالى يكون كافراً بالإجماع. والشيعة بالذات يعرفون هذا جيدًا، إذ يقرأون في نص الزيارة الجامعة الكبيرة - وهي أصح الزيارات سندًا كما يقول العلامة المجلسي - عن الإمام الهادي صلوات الله عليه: «ومَن جحدكم كافر، ومَن حاربكم مشرك، ومَن ردَّ عليكم فهو في أسفل درك من الجحيم».
والإجماع أن عائشة حاربت سيد الأوصياء (صلوات الله عليه) وجحدته وردَّتْ عليه في حرب الجمل، فهي بهذا تكون كافرة مشركة، فكيف تسمى الكافرة المشركة بأم المؤمنين وتلقَّب بالسيدة؟! وعلى أية حال فإنه لا يمكن لمن يدعي التشيع فهم القرآن الحكيم إلا بما جاء عن عِدْلِهِ من العترة الطاهرة عليهم السلام، وهم قد أثبتوا انقطاع عصمة عائشة وسقوطها عن أمومة المؤمنين بعد الذي أحدثت. وقد بيَّنت العترة الطاهرة أيضًا أن في القرآن من الأوصاف والنعوت والتعابير ما لا يُراد به الالتزام بل الإلزام، فمن ذلك التسمية بالمؤمنين، كما في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا * وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا». يقول إمامنا الصادق (عليه السلام) في تفسيرها: «لو قال هذه الكلمة أهل الشرق والغرب لكانوا بها خارجين من الإيمان، ولكن الله سمّاهم مؤمنين بإقرارهم، وليسوا بمؤمنين ولا كرامة». (تفسير القمي ج1 ص143 وتفسير العياشي ج1 ص257)
(4) أن الثقافة الشيعية العامة عند الشيعة الأوائل لم يكن فيها وصف الحميراء بأم المؤمنين، بل كان فيها ما هو معلوم من الهجاء لها وذمها وشتمها، كقول الذي سمّاه الإمام الصادق (عليه السلام) بسيد الشعراء وبشَّره بالجنة؛ أي السيد الحميري رحمه الله، فلقد جاء في (أعيان الشيعة ج3 ص428) قوله:
جاءت مع الأشقيْن في هودج
تزجي إلى البصرة أجنادها
كأنها في فعلها هِرَّةٌ
تريد أن تأكل أولادها!
(5) أن الذي كان يركز على وصف عائشة بأم المؤمنين وضرورة تبجيلها وتوقيرها إنما هو معاوية، فلقد جاء في كتاب له أرسله إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام: «هذا إلى تشريدك بأم المؤمنين عائشة وإحلالها محل الهون، متبذلة بين أيدي الأعراب وفَسَقَةِ أهل الكوفة، فمن بين مشهِّرٍ لها، وبين شامتٍ بها، وبين ساخرٍ منها. ترى ابن عمك كان بهذا لو رآه راضيًا؛ أم كان يكون عليك ساخطًا ولك عنه زاجرًا؟! أن تؤذي أهله وتشرد بحليلته»! (شرح النهج ج17 ص251)
ما أشبه هذه اللغة بلغة بعضنا في عصرنا هذا، فإنهم مع ادعائهم التشيع تراهم يقولون: يجب احترام أم المؤمنين عائشة ولا يجوز التشهير بها أو السخرية منها، لأنها مهما كان حليلة رسول الله صلى الله عليه وآله، ولأجل عين ألف عين تُكرَمُ! أ ترى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يرضى بالإساءة إلى امرأته؟!
تُرى؛ كيف غاب عن هؤلاء أن التشيع العظيم يجعل معيار الاحترام دائمًا هو ثبوت (التقوى) لا مجرد (العلاقة الزوجية) أو حتى (العلاقة النسبية)؟ كيف غفلوا عن شرط التقوى الذي نصَّ عليه الله تعالى في كتابه المجيد في قوله: «يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ»؟! وكيف تغافلوا عن قوله سبحانه وهو يجرِّم عائشة وحفصة: «ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ»؟! وكيف لم يدركوا أن المرأة من نساء النبي (صلى الله عليه وآله) إذا أتت بفاحشة أو أحدثت حدثًا فيجب صبُّ اللعنات عليها أكثر من غيرها لأن الله سبحانه يضاعف لها العذاب لما هتكت من حجاب النبوة؛ وذلك صريح قوله جل وعلا: «يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيرًا»؟!
كيف دخلت لغة معاوية وثقافته بيننا هكذا؟! كيف أُهمِلتْ لغة علي والثقافة الشيعية الموروثة من بنيه الأئمة صلوات الله عليهم؟! ثقافة القرآن والعترة؟!
هل نظر أحدٌ في جواب أمير المؤمنين (عليه السلام) على كتاب معاوية اللعين؟ إنه في نهج البلاغة يقول: «وذكرتَ أني قتلتُ طلحة والزبير، وشرَّدْتُ بعائشة، ونزلتُ بين المصرين. وذلك أمر غِبْتَ عنه فلا عليك، ولا العذر فيه إليك»!
لم ينفِ أمير المؤمنين (عليه السلام) ما اتهمه به معاوية من تشريد عائشة وإفساح المجال لابتذالها؛ والتشهير بها والشماتة؛ والسخرية منها، ولا اعتبر ذلك ذنبًا أو عيبًا ينبغي الاعتذار منه، ولا كلَّف نفسه الردَّ على منطق ابن هند المغلوط بربط كرامة عائشة بكرامة رسول الله صلى الله عليه وآله، وإنما اكتفى بسطرين قد مرّا عليك!
والشاهد فيهما هو اللغة التي استعملها الإمام صلوات الله عليه، ففي حين يقول معاوية: «تشريدك بأم المؤمنين عائشة»؛ يقول الإمام: «وشردت بعائشة» فأسقط لقب (أم المؤمنين) عمدًا، حتى لا يقال يومًا أنه (عليه السلام) استعمل لها هذا اللقب الذي لم تعد تستحقه.
فما بال هؤلاء الذين يعتمرون عمامةً يزعمون أنها رمز لعمامة علي بن أبي طالب (عليهما السلام) لا يلتزمون بلغته ومنطقه؟!
وا عجبًا! يعتمر عمامة علي ولسانه لسان معاوية! ذاك هو: معاوية الشيعي!
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقتلوه» (وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص216). وإني أقول: إذا رأيتم معاوية الشيعي يخطب على منبره صلى الله عليه وآله؛ فأتموا عليه الحجة أولا؛ فإن لم يتب؛ فأنزلوه.