2 صفر الأحزان 1439
ذكرنا في المقال السابق أن الطاغية الثاني عمر بن الخطاب اعترف في الحادثة الشهيرة التي أغضب فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنه قد تآخى مع اليهود حيث قال: «إني مررتُ بأخٍ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة». (مسند أحمد 15864)
وكتب الحديث والأثر تحدثنا أن استكتاب عمر للتوراة المحرفة من أخيه اليهودي لم يكن فلتةً من الفلتات أو حادثة عابرة؛ وإنما كان عادةً مستمرةً حيث كان ابن الخطاب يهوى الحضور في المعبد اليهودي (المدراس) فيتلمَّذَ هنالك منبهرًا باليهودية التي أخذت أحاديثها بقلبه. يقول: «إن أهل الكتاب يحدثونا بأحاديث قد أخذت بقلوبنا»! (الدر المنثور للسيوطي ج5 ص148)
وبداعي هذا الانجذاب الكبير لليهودية واليهود انتقل عمر بن الخطاب للسكن معهم بعيدًا عن رسول الله صلى الله عليه وآله. وهذه حقيقة تاريخية صادمة يجهلها معظم المسلمين اليوم، الذين لا يمكن أن يتخيَّلوا أن يفضِّل مسلمٌ مجاورة اليهود على مجاورة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) خاصة وأنه على قيد الحياة، كما لا يمكن أن يتخيَّلوا أن يتلقى مسلمٌ التعاليم اليهودية التي شابها ما شابها من كذب وتحريف وتزوير؛ ويهمل التعاليم التي يمكن له أن يتلقاها من المنبع الصافي المتمثل بسيد المرسلين صلى الله عليه وآله.
ولكن هذه هي الحقيقة التي كان عليها عمر، لقد ترك السكن مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذهب إلى العوالي التي تبعد عن مركز المدينة المنورة أربعة أميال فما يزيد. يقول: «كان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي». (مسند أحمد 226)
وبسبب هذا البعد كان عمر قد حرم نفسه من ملاقاة النبي (صلى الله عليه وآله) والتلقي منه مباشرةً كل يوم. يقول: «كنتُ أنا وجارٌ لي من الأنصار في بني أمية بن زيد وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يومًا وأنزل يومًا». (صحيح البخاري 89)
العوالي هذه كانت منطقة مساكن اليهود كما في جاء في كتب السيرة. ففي كتاب المعالم الأثيرة في السنة والسيرة لمحمد بن محمد حسن شُرّاب ص228: «جُلُّ سُكنى اليهود كانت بالعالية من المدينة». وفي كتاب السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم ضياء العمري ص427:
«وكانت ديار بني قريظة في العوالي في الجنوب الشرقي للمدينة على وادي مهزور». وفي كتاب مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول (صلى الله عليه وآله) لأحمد إبراهيم الشريف ص246: «وقد سكن اليهود الجهات الخصيبة الغنية في منطقة يثرب؛ فقد أقام بنو النضير بالعوالي في الجنوب الشرقي للمدينة على وادي مذينب، وأقام بنو قريظة إلى شمالهم على وادي مهزور، أما بنو قينقاع فقد أقاموا عند منتهى جسر وادي بطحان مما يلي العالية، وكان لهم هناك سوق من أسواق المدينة عُرفت بهم».
وإذ أقام ابن الخطاب هناك فإنه كان دائم التردد على المعبد اليهودي (بيت المدراس) يتلقى فيه التعاليم والأحاديث اليهودية كما شهد به السدي إذ يقول: «كان لعمر بن الخطاب أرضٌ بأعلى المدينة، فكان يأتيها، وكان ممرُّهُ على طريق مِدراس اليهود، وكان كلما دخل عليهم سمع منهم». (تفسير الطبري ج2 ص290 وتفسير السيوطي ج1 ص223)
أدى التصاق عمر باليهود وانتساخه منهم ما حرَّفوه من كتاب الله إلى غضب استثنائي من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، فالأحاديث تتحدث عن أنه صلى الله عليه وآله «غضب حتى احمرَّتْ وجنتاه» وأن الأنصار حين رأوا هذا الغضب الشديد رفعوا السلاح وقالوا: «أغضب نبيكم صلى الله عليه وسلم! السلاح السلاح! فجاؤوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس، إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه، واختُصر لي اختصارا، ولقد آتيتكم بها بيضاء نقية، فلا تتهوكوا ولا يغرَّنكم المتهوِّكون». (تفسير ابن كثير ج4 ص315)
لا يمكن إذن اعتبار ما كان من عمر حادثة عرضية عابرة أو بسيطة، لأنها لو كانت كذلك لما أدَّتْ لكل هذا الغضب النبوي الذي كان كالبركان، ولما أدَّتْ إلى انتشار المظاهر المسلحة في المدينة المنورة كرد فعل. إنه ليس لهذا إلا معنى واحد وهو أن أفعال عمر في مؤاخاة اليهود ومجاورتهم وتلقي الأراجيف والهرطقات منهم كان أمرًا خطيرًا جدًا؛ يهدد كيان الإسلام.
وإذا كان الرسول المصطفى (صلى الله عليه وآله) غاضبًا على عمر بسبب تلك الأفعال المنكرة؛ فإن اليهود في المقابل كانوا راضين عنه تمام الرضا، وكانوا يُكِنِّون له حبًّا خاصًّا لأنه يتواصل معهم ويأتيهم. وهذا باعتراف عمر نفسه حيث يقول: «كنتُ أشهد اليهود يوم مِدراسهم فأعجب من التوراة كيف تصدِّقُ الفرقان ومن الفرقان كيف يصدِّقُ التوراة. فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يابن الخطاب! ما من أصحابك أحدٌ أحبَّ إلينا منك! قلتُ: وِلمَ ذلك؟ قالوا: إنك تغشانا وتأتينا». (تفسير الطبري ج2 ص287)
علاقة الحب بين عمر واليهود امتدت إلى ما بعد استشهاد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) رغم الآيات التي نزلت في ذمهم والتحذير منهم؛ ورغم الغدر الذي كان منهم والحروب التي نشبت بينهم وبين المسلمين.
ومن صور علاقة الحب العجيبة هذه تقريب عمر لكعب الأحبار اليهودي وتمكينه من الفتيا للناس في مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله! ومن صورها أيضًا أن اليهود كانوا أول من منح عمر بن الخطاب وسام (الفاروق)! خلافًا لما يتوهمه معظم المسلمين من أن عمر اكتسب هذا اللقب من النبي صلى الله عليه وآله، فالحقيقة أنه لم يكتسبه منه إطلاقًا، بل لم يكتسبه من المسلمين، بل اكتسبه من إخوانه اليهود! يقول ابن شهاب: «بلغنا أن أهل الكتاب كانوا أول من قال لعمر: الفاروق! وكان المسلمون يؤثرون ذلك من قولهم، ولم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر من ذلك شيئا». (تاريخ المدينة لابن شبة ج ص662 والطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص271)
وقد حظي عمر بن الخطاب بحب كثير من اليهود الذين اعتبروه (حبيب إسرائيل)! وذلك تفسيرًا لنبوءة جاءت في كتاب حاخام شهير كان يعيش في القرن الثاني للميلاد. ذلك الحاخام هو شمعون بار يوحاي الذي جاء في كتابه الأسرار والملوك العشرة والصلاة ص29: «الملك الثاني الذي يقوم من إسماعيل سوف يكون حبيب إسرائيل، إنه يرمم صدوعها وصدوع الهيكل، إنه يحفر جبل موريا ويجعله مستقيما بالكامل، ويبني مسجدا هناك على صخرة الهيكل كما يقال: على الصخرة وكرك، ويشن حربا على أبناء عيسو ويقتل جيوشه ويأخذ أسرى عديدين منه، وسوف يموت بسلام وبمجد عظيم».
وقد نقل الباحث نبيل فياض آراء اليهود في تفسير هذا النص، حيث يقول: «الذي نعتقد أنه كان الفاروق عمر بن الخطاب، يشاركنا في هذا الرأي الباحثان مايكل كوك وباتريشيا كرونه إضافة إلى الموسوعة اليهودية… والتقليد اليهودي يعتبر عمر حاكما خيِّرا، والمدراش (تستاروت أسرار دراف شمعون بار يوحاي) يشير إليه بصديق إسرائيل أو عاشق إسرائيل!… الموسوعة اليهودية كما لاحظنا وأشرنا تقول دون أدنى تردد أن المقصود بالملك الثاني من إسماعيل، حبيب أو صديق إسرائيل، هو عمر بن الخطاب». (نصان يهوديان حول الإسلام ص60)