7 صفر الأحزان 1439
لطالما سمعنا وطرقت أسماعنا مثل هذه الكلمات الرنانة والشعارات البراقة التي تروج من قبل بعض التيارات الموجودة في الوسط الشيعي أو خارجه والتي تحاول -ظاهرا- إضفاء صفة الإنسانية وترويجها ومحاولة منها لتأسيس منهجية معينة قائمة على نبذ الحقائق ودس السم في العسل وإن لم تصرح بذلك علنا أو بوضوح حيث تقول وتنادي:
ما الذي نستفيده من الإنشغال بالماضي؟! لماذا لا ننظر للمستقبل فحسب بحيث نفتح صفحة جديدة ونذر ما اختلفنا عليه ذرو الرياح؟! لماذا لا نعيش مع الآخرين ونترك كل ما يعكر صفونا، وخصوصا تلك الملفات القديمة التي تعود إلى صدر الإسلام؟!
يقول الشيخ الحبيب في كتابه "التوطئات التسع" في رده على هذه الشبهة:
لماذا أشغلنا الله بمخازي الأمم الماضية؟! ألسنا أبناء اليوم؛ فما شأننا بأبناء الأمس؟! ولماذا يتوجب علينا أن نستذكر بل ونتذاكر موبقاتهم بدلا من أن ننصرف فقط إلى شؤون عصرنا ومتطلبات مستقبلنا؟!
وفي وحيه الذي أوجب على البشر تلاوته في كل عصر ومصر؛ لماذا يضطرنا الله إلى أن نقرأ بل ونردد «فضائح» شخصيات ماتت وقُبِرت منذ مئات بل ألوف السنين؟!
أي ضرورة في أن يعرّي الله لنا قابيل، ونمرود، وفرعون، وهامان، وقارون، وعاقر ناقة صالح، وابن نوح الفاسد، وأشباههم؛ فيحكي لنا - وبتكرار في عشرات الآيات - عصيانهم وطغيانهم مع أنهم جميعا قد لقوا حتفهم وانتهت أحقابهم وولّت إلى غير رجعة؟!
وأي مُلحّة في أن يقصّ الله في أعظم كتبه المنزلة قصص فساد أقوام مثل قوم ثمود، وقوم عاد، وبني إسرائيل، وأصحاب الأيكة، وغيرهم، مع أنهم جميعا قد هلكوا وانقرضوا؟!
ولماذا لم يتكتّم الله على فضائح قوم لوط فلم يُعزب عنا قذارات شذوذهم وانحرافهم؟! ولمَ أشار إلى «خيانة» زوجته التي كانت تصعد فوق سطح بيته لتصفّق وتصفّر داعية الرجال إلى ممارسة فحشاء اللواط مع ضيوفه؟! ألم يكن الأحسن أن يحجب الله عنّا هذه الصورة القبيحة صيانة لسمعة بيت نبيّه فلا يُقال أن زوجته كانت قوّادة؟!
وإذا قيل أن هؤلاء جميعا كانوا فسقةً فجرةً ظَلَمةً ولم يتوبوا فلذا فضحهم الله في كتابه؛ فلماذا لم يتستّر الله على زليخا التي راودت يوسف عن نفسه وحاولت إغواءه واستدراجه إلى الزنا، فكشف لنا عن أدق تفاصيل أفعالها الشائنة مع أنها قد تابت في ما بعد وزوّجها الله نبيّه يوسف؟! ألم يكن الأجدر أن يخفي الله عنّا هذه التفاصيل «الحرجة» إكراما لنبيّه على الأقل إذ أصبحت هذه المرأة زوجته؟!
لماذا لا نتجاوز كل هذه القضايا التي أكل عليها الدهر وشرب ونتطلع فقط لحاضرنا ومستقبلنا؟! هل نحن مجبورون على البقاء أسرى للماضي وشخصياته باستحضار تلك الأحداث وحساسياتها دوما وأبدا في قرآن يُتلى ليلا ونهارا؟! إلى متى؟!
والجواب: إلى يوم يُبعثون! فإنك إنْ أردت لحاضرك أن يكون منيراً ولمستقبلك أن يكون مشرقاً فلا بد لك من أن تستفيد من ماضيك وماضي من سبقك في الحياة، إذ من ذلك تستخلص العبر والدروس فيكون بناؤك لحاضرك ومستقبلك بناءً سليماً.
وإذا أغمضت عينيك عن الماضي بما فيه من سلبيات وجرائم؛ فإنك بذلك ترتكب خطئاً فادحاً، إذ لن تتعلم وستوقع نفسك لا محالة في أخطاء من سبقوك! سواء كان ذلك الخطأ دينياً أم دنيوياً، فهو على كل حال يوردك المهالك. وعلى هذا ينبغي الانفتاح دائما على الماضي، لا الانزواء عنه.
والله الحكيم إنما أورد هذه القصص والوقائع والأحداث في كتابه المجيد كي يستخلص منها البشر أعظم الدروس، فإنه لا يؤثر في الإنسان شيء أكثر من تجربة مثيله الإنسان، لهذا سلّط الله الضوء على تجارب الأمم السابقة، علّ هذه الأمة وسائر الأمم الأخرى تعتبر فتصحّح مسارها وعلاقتها بالخالق جلّ وعلا.
وإنما جاء التركيز في القرآن العظيم على الشخصيات المنحرفة، فأبرز الله تعالى جرائمها ومخازيها بأدق التفاصيل، كي يكون ذلك تحصينا للمؤمن من جهات عدّة، من أهمها عدم اغتراره بالظالمين والفاسدين والمنحرفين، مهما كان مظهرهم، ومهما كان موقعهم، فليس التمظهر بالدين والورع بكافٍ لاكتساب صاحبه الاحترام شرعا، وليست مصاحبة نبي من الأنبياء كافية لتبجيل صاحبها، كما أن مجرّد زواج النبي من امرأة ما؛ لا يعني أنه يسبغ عليها ثوب القداسة ويوجب على الناس تعظيمها.
إنما اللازم دائما أن يُعمل الإنسان عقله فيبحث ويحقّق وينظر ويتفكّر، ليكون على بيّنة تصحّح موقفه من هذه الشخصية أو تلك، لا أن يكتفي فقط بوجهها الظاهري فيبني عليه، وإنما عليه أن يبحث عن «وجهها الآخر» الذي هو الباطن، فإذا وجد الباطن يطابق الظاهر في الصلاح، فإن عليه واجب احترام هذه الشخصية، وإن لم يجد، أي وجد وجها آخر في الفساد، كان عليه أن يتخذ موقف العداء من هذه الشخصية.
والقرآن الكريم إنما يخاطب في الإنسان عقله بقصد تنشيطه وإيقاظه، ولذا فإن الله تعالى عندما يركز آياته على «أدق التفاصيل» حتى ولو كانت حرجة وحساسة، وتتعلق بما يدور في بيوت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنه يقصد من وراء ذلك إيقاظ عقول البشر، وإفهامهم أن الإنسان مهما بلغ من مرتبة دينية ظاهرية، ومهما ارتبط بنبي أو رسول، فإنه يبقى معرّضا للانزلاق والوقوع في حبائل الشيطان. و«التفاصيل» وحدها هي القادرة على ترسيخ هذا الاعتقاد في أذهان بني البشر، إذ الإجمال لا يكفي. كما أن «التصريح» في مثل هذه الموارد هو المطلوب لا «التلميح» إذ إن هذا الأخير يفتح باب التأويل إلى أن يُحرَّف المعنى كليّةً.
لهذا أراد الله سبحانه أن ينبّه عباده - بصراحة تفصيلية - إلى خطورة الانزلاق في مسالك الشيطان والهوى والنفس الأمارة بالسوء، وأن هذا الانزلاق قد يصيب حتى أولئك الذين توفرت لهم أجواء دينية مثالية وبلغوا في مراتب الإيمان ما بلغوا، إلا أنهم في نتيجة الأمر سقطوا!
فهذا بلعم بن باعوراء امتلك بإيمانه وعلمه اسم الله الأعظم، وحاز على ما يغبطه به الأولون والآخرون، لكن الشيطان استزلّه بعد ذلك فاتبع هواه وأصبح مثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث! كما حدّث الله تعالى في فرقانه.
وهاتان امرأتا نوح ولوط عليهما السلام؛ حازتا على شرف تتمناه نساء العوالم أجمع وهو الاقتران بنبيّين عظيمين مع ما تنطوي عليه الحياة المشتركة معهما من أجواء إيمانية مثالية، ومع ذا استدرجهما الشيطان إلى خيانة زوجيْهما بالكفر والعصيان وإشاعة الفحشاء والمنكر والبغي! كما نصّ عليه الله سبحانه في كتابه.
وهؤلاء أبناء يعقوب عليه السلام، وُلدوا من صلب الأنبياء وضمّهم بيت نبي عظيم ربّاهم وأدّبهم فأحسن تربيتهم وتأديبهم، ومع ذلك أوقعهم الشيطان في مهلكة الحسد لأخيهم يوسف عليه السلام، وتآمروا على قتله فألقوه في غيابة الجب! كما ذكر الله جل وعلا في تنزيله.
ولا يصح حجب أمثال هذه الحقائق وتفاصيلها والادعاء بأن في الحجب مراعاة لكرامة الأنبياء! إذ إن بيانها لا يخلّ بكرامتهم (عليهم السلام) إطلاقا، فإن على العقل أن يفرّق مثلا بين النبي - أي نبي - وبين قومه وأصحابه، فلا يقول: «إن الطعن في قومه يلازم الطعن فيه لأننا بذلك ننسب إليه الفشل في أداء رسالته وتربية أصحابه»! فأي شيء على النبي إذا بلّغ رسالة ربّه وأرشد قومه إلى الهدى فآمنوا به أولا ثم من بعده كفروا وارتدّوا وضلّوا وأضلوا وحرّفوا الكتاب الذي أنزله الله تعالى على نبيّه؟! وهو الذي حصل بعد رحيل كل الأنبياء.
وكذا على العقل أن يفرّق بين النبي - أي نبي - وبين أبنائه، فلا يقول: «إن كل ابن للنبي هو بالضرورة صالح عادل ولا يصح القدح فيه وإلا لاستلزم ذلك قدحا في والده النبي لأنه لم يُحسن تربيته»! فأي شيء على النبي إذا ما أدّى واجبه في تربية أبنائه على أكمل وجه إلا أنهم مع هذا انحرفوا وعصوا؟! كما حصل مع ابن نوح، وأبناء يعقوب عليهما السلام.
وكذا على العقل أن يفرّق بين النبي - أي نبي - وبين زوجاته، فلا يقول: «إن كل زوجة للنبي تكون بالضرورة مؤمنة صالحة شريفة عفيفة محفوظة من كل دنس وإلا لاستدعى ذلك تدنيس وتلويث سمعة زوجها النبي»! فأي شيء على النبي إذا ما تزوّج امرأة وبالغ في نصحها وإرشادها ومع ذلك أبت إلا الكفر والفسق والعصيان والفُحش؟! كما حصل مع زوجتي نوح ولوط عليهما السلام.
هذا والقرآن الكريم كتاب العقل، يلهمنا فيه ربّنا سبحانه إلى القواعد العقلية التي ينبغي علينا الاستناد إليها، ومن بين أهمّ تلك القواعد قاعدة تقديم الأهم على المهم، فعلى افتراض أن في ذكر قصة ما - كقصة يوسف مع امرأة العزيز زليخا - حرجا من باب أن المرأة أضحت بعد ذلك زوجة لهذا النبي الكريم بعد توبتها، إلا أنه لا بد من ذكر ما فعلته قبل ذلك من أفعال شائنة، تغليبا للأهم وهو التبليغ والإرشاد بقصد تحقق الهداية وأخذ العبرة؛ على المهم وهو صون سمعة زوجة نبي قد تابت من أفعالها. وهذا ما فعله الله تعالى في قرآنه إذ ذكر هذه القصة بكل تفاصيلها الحساسة والحرجة.
نعم.. هو استدعاء للماضي، لكنه ضروري لبناء المستقبل على أسس سليمة. ثم نعم.. هو إشغال للعقل بما جرى في سالف الزمان، إلا أنه مهم لإرشاده نحو التفكير الصحيح الذي يقوده إلى الصراط المستقيم، فينجو ويفوز برضوان الله تعالى يوم الحساب.
إذا عرفت هذا؛ فستزول التساؤلات أو الشبهات التي تدور في ذهنك!
لا تقل: لماذا لا نتناسى ما وقع في الأزمان الغابرة لنمضي قدما معا نحو المستقبل؟ إذ يُقال لك: لا مستقبل يصفو على ماضٍ مشوب وهكذا علّمنا القرآن إذ استحضر كل تلك الوقائع!
لا تقل: لماذا نثير حساسيات الماضي؟ إذ يُقال لك: هو أسلوب الله تعالى في التبليغ والإرشاد كما في القرآن!
لا تقل: لماذا لا نحجب تلك التفاصيل الحرجة؟ إذ يُقال لك: لم يحجبها الله تعالى في القرآن مع أنها تخصّ زوجة نبي تائبة فلماذا نحجبها نحن عمّن لم تتب ولم يدخل الإيمان قلبها أصلا!
لا تقل: لماذا نسيء إلى نبينا بفضح زوجته؟ إذ يُقال لك: وهل أساء الله إلى النبيَّيْن نوح ولوط عندما فضح زوجتيهما؟!