بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم
شيخنا الفاضل
كنتم قد تفضلتم في جواب سؤال سابق :
( " والأدلة متعددة ومتنوعة، منها ما ورد عن مولانا بقية الله تعالى في أرضه أرواحنا فداه: "نحن صنائع ربنا، والخلق بعدُ صنائعنا" (الاحتجاج للطبرسي ص466).
وكذا ما ورد في الزيارة الصحيحة لسيد الشهداء أرواحنا فداه: "إرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم". (كامل الزيارات ص200).
إلى غيرها من الشواهد التي تورث الاطمئنان بأن الله جل وعلا حيث قد خلقهم (عليهم السلام) وأكملهم فإنه قد فوّض إليهم خلق الكائنات من غير استقلال، بل في طول إرادته الكلية، فهم يخلقون ما يشاءون ويعدمون ما يشاءون، كما أنهم يحللون ما يشاءون ويحرّمون ما يشاءون، ولن يشاءوا إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى، كما ورد بذلك النص الشريف. وبهذا يكون لهم الخيار، ضمن الإرادة الكلية لله تعالى، لأنه سبحانه قد أكمل عقولهم حينما خلقهم، فيكون اختيارهم موافقا لرضاه. وفي هذا تفصيل علمي طويل ليس هنا محلّه. " )
هل خلق نواصب العدآء لهم أمثال اللعين ابن الصهاك لعنة الله عليه تقع أيضا في نفس هذا المضمون ( فإنه قد فوّض إليهم خلق الكائنات من غير استقلال، )، فكيف ذلك و كيف السبيل لفهم الصحيح لهذه القضية .
حبذا أيضا تشرحون المعنى و المقصد من ( بل في طول إرادته الكلية، ) ضمن شرح تفصيل المقطع المشار اليه في الأعلى .
نرجوا من جنابكم أن تبرهنوا على مقالتكم و أن تفصلوا ما إختزلتموه ، حيث قلتم ( : وفي هذا تفصيل علمي طويل ليس هنا محلّه. )
فنرجوا البيان الكلي لمقصدكم بحق محمد و آل محمد اللهم صل على محمد و آل محمد الأطيبين الأطهرين فنحن في شوق و لهفة لمعرفة هذه الحقائق النورية ، حفظكم الباري .
حبذا أيضا الإشارة إلى مقام الرضا عندهم صلوات الله و سلامه عليه و عليهم أجمعين حيث قلتم ( فيكون اختيارهم موافقا لرضاه ) .
والسلام
باسمه تقدست أسماؤه. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. عظم الله أجورنا وأجوركم بذكرى استشهاد الصديقة البتول فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها، جعلنا الله وإياكم من الثائرين لها مع ولدها المنتظر المهدي أرواحنا فداه وعجل الله فرجه الشريف.
قد ذكرنا في دروس الكلام أن الأفعال الصادرة من الخلائق لم تصدر منهم على نحو الاستقلال والأصالة كما يقول المعتزلة في التفويض، ولا على نحو الجبر والقهر كما يقول الأشاعرة في الكسب، وإنما تصدر منهم منزلة بين منزلتين، أي أن الفعل المتحقق خارجا اشتركت فيه علتان محدِثتان، واحدة منهما في طول الأخرى لا في عرضها، وهاتان العلتان هما إرادة الله تعالى، ثم إرادة العبد. والأولى على نحو الأصالة، والأخرى على نحو التبعية، كما أن معنى الأولى هو أن الله تعالى فوّض إلى العبد القدرة على إحداث الفعل بعد تحقق القصد الاختياري عنده، ومعنى الأخرى هو استمداد العبد القدرة منه تعالى على الفعل والإحداث. وبهذا يتحقق الفعل خارجا متى ما تحقق الاختيار والقصد من العبد، ومتى ما لم يكن معارضا للمشيئة الإلهية، وبدون هذين الشرطين لا يتحقق فعل في عالم الوجود أصلا.
وقد مثّلنا للأمر بأولئك الذين يعانون من الشلل العصبي، حيث يستعينون طبيا ببطاريات خاصة لتقوية أعصابهم، وبها يتمكنون من تحريك أعضائهم وبدونها لا يتمكنون، فالأفعال الصادرة عنهم هنا صدرت من قدرتين اجتمعتا على مقدور واحد، وواحدة في طول الأخرى لا في عرضها.
ثم إن هذا الفعل الصادر من أي فاعل له دائرة طبيعية محددة لا يمكن له أن يتحقق خارجها، وذلك حسب السنن الطبيعية التي خلقها الله تبارك وتعالى، فيكون الفعل خاضعا لها، وبذا تتفاوت الأفعال بتفاوت الأنواع الصادرة عنها، فما يصدر عن النار مثلا هو الإحراق، ولا يمكن صدور هذا الإحراق من البشر مباشرة مثلا، كما أن الكتابة مثلا تصدر من البشر ولا يمكن صدورها من الحيوان غير الناطق أو النبات مثلا، وهكذا حسب ما انطوت عليه تلك الأنواع من القدرات التي أودعها الله تعالى فيها، والطبائع التي سنّها في النظام الكوني بحيث يؤثر هذا في ذاك ولا يؤثر ذاك في هذا. وتارة تكون دائرة أو نطاق صدور الأفعال من هذا النوع كبيرة، وأخرى تكون من ذاك النوع صغيرة، تبعا لاختلاف المراتب الخَلقية، فالإنسان مثلا له دائرة فاعلية أوسع من الحيوان، والحيوان أوسع من النبات، والنبات أوسع من الجماد، وهكذا.
إذا عرفت هذا كقاعدة؛ فاعلم الآن أن هناك مِن خلق الله تعالى مَن أمدّه سبحانه بقدرة أقوى، فوسّع دائرة ما يصدر منه من أفعال، ومن هؤلاء الملائكة (عليهم السلام) إذ حازوا على قدرة أقوى من قدرة الإنس والجن مثلا، فتكون دائرة ما يصدر منهم من أفعال أوسع، فبإمكانهم التصرّف في عالم التكوين بما لا يقدر الإنس والجن عليه، وليس معنى هذا سوى أن الله تعالى فوّض إليهم ما هو أوسع وأعم مما فوّضه إلى الإنس والجن.
ومن هؤلاء الذين أمدّهم الله تعالى بقدرة أقوى وأقوى؛ المعصومون الأربعة عشر عليهم صلوات الله وسلامه، فدائرة ما يصدر منهم من أفعال هي الأوسع من كل دائرة، وبإمكانهم التصرّف في عالم التكوين بما لا يقدر غيرهم عليه، مضافا إلى قدرتهم على التصرّف في عالم التشريع أيضا. وهذا هو ما قام عليه الدليل العقلي والنقلي، أما النقلي فقد أشرنا إليه غير مرّة وقد نقلتموه في سؤالكم من أحاديث صريحة في هذا المعنى، وأما العقلي فالذي أثبتناه في دروس الكلام من أن مقتضى تنزيه الباري تعالى عن مباشرة الأفعال بنفسه هو إيكالها - أي المباشرة - إلى خلقه بإذن منه جل وعز وتفويض طولي غير استقلالي، فذلك هو ما جرت عليه السنن الكونية كما أسلفنا.
وعلى هذا يظهر لك صحة القول بأن الله تعالى قد فوّض إلى المعصومين (عليهم السلام) أمر خلق الكائنات، لا على نحو الاستقلال، بل على نحو التبعية، فتكون إرادتهم في طول إرادته أي تابعة لها، ويكون خَلقهم بإذنه ومشيئته. وما الخلق إلا فعل الإيجاد من العدم، فهو في نتيجة الأمر فعل من الأفعال، غاية ما هنالك أن الله تعالى جعله ضمن الدائرة الطبيعية للمعصوم، فيما لم يجعله ضمن الدائرة الطبيعية لغيره، فاقتصرت دائرة الغير على أفعال أدنى.
بقيت الإشارة إلى أن الروايات الواردة في النهي عن الاعتقاد بالتفويض ولعن المفوّضة إنما هي محمولة على الاعتقاد بالتفويض الاستقلالي، وليس هذا ما نحن فيه، فالتفويض بالمعنى الذي ذكرناه لا دليل على ردّه في النصوص المأثورة عنهم صلوات الله عليهم، بل العكس جاءت النصوص مؤيدة له كما نقلنا، وتجد فيها قولهم عليهم السلام ما مضمونه: ”ولا نشاء إلا أن يشاء الله تعالى“ تأكيدا على معنى التفويض الطولي.
وقوله صلى الله عليه وعجل الله فرجه: ”نحن صنايع ربنا والخلق بعد صنايعنا“ واضح في أن الله تعالى قد خلقهم خلقا خاصا وأدّبهم تأديبا خاصا - إذ الصنع يأتي أيضا بمعنى التأديب - فأكملهم ففوّض إليهم صنع الخلائق أي خلقها وإيجادها، إذ هو يعلم أن فعلهم سيكون موافقا لرضاه لأنه أكمل عقولهم فلا يفعلون ما هو خلاف الحكمة والإرادة الإلهية.
ولا يصح حمل هذا الخبر على محمل أن المقصود هو التأديب وحده، فيكون المعنى أن الله أدّبهم وهم قد أدّبوا الناس، إذ من المعلوم أن كل الناس ليسوا ممن أدّبوهم، ففيهم الكفار والمنافقون والمنحرفون عن طريقهم، وأصالة الحقيقة تدفع أيضا إرادتهم المجاز لفقدان القرينة على ذلك، وبضميمة الأخبار الأخرى كـ ”قلوبنا أوعية لمشيئة الله“ و”إرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم“ و”إذا شئنا شاء الله“ و”إن الله أدّب نبيه بأدبه ففوّض إليه دينه“ إلى غيرها من روايات؛ يتأكد المعنى الذي ذكرناه.
أما عن أن خلقهم للخلائق يشمل خلق ابن صهاك وغيره من الكفرة والمنافقين؛ فنعم هو يشمله، ولا إشكال في ذلك فإنهم كما قلنا إنما يخلقون بإذن الله تعالى على طبق مقتضيات الحكمة، والحكمة هي في اختبار البشر وتعريضهم للامتحان والفتنة ”ليبلوكم أيكم أحسن عملا“، وبغير خلق هؤلاء وإيجادهم لا يتحقق ذلك إذ من الواضح أنه لو اقتُصر على خلق الصالحين فقط لما وقع التنازع بينهم وبين الأشرار، فلا يكون للاختبار معنى أصلا.
ولو صحّ توجيه الإشكال إليهم (عليهم السلام) لصحّ توجيهه إلى الله تبارك وتعالى، إذ هم خلقه بالأصالة، وهو الذي شاء خلقهم مع علمه المسبق بأنهم سينحرفون إلى طريق الشر. وإنما حصل خلقهم بتوسط القدرة التفويضية الممنوحة من قبله سبحانه إلى المعصومين (عليهم السلام) لا أكثر.
أمدّكم الله بما هو أهله من فضله وكرمه. والسلام.
9 من ربيع الآخر لسنة 1428 من الهجرة النبوية الشريفة.