بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.
الشيخ الفاضل ياسر الحبيب حفظه الله وسدد خطاه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
شيخنا الفاضل نرجو من سماحتكم الكريمة التفضل علينا من جودكم وحلمكم بالإجابة عن أسئلتنا حول بعض مباحث العقل وتوضيح بعض المفاهيم بالتفصيل إن أمكن شاكرين لكم.
س1:هل كل ما حكم به الشرع حكم به العقل ، وكل ما حكم به العقل حكم به
الشرع ، أم أنه كل ما حكم به العقل حكم به الشرع وليس بالعكس أم ماذا؟
س2:هل كل حسن عقلا واجب عقلا؟
س3:شكر المنعم حسن عقلا وبالبداهة لكن هل يعني ذلك أنه واجب عقلا وبطريق العقل فقط ، كبداهة حكم العقل بوجوب دفع الضرر البليغ المحتمل
مثلا أم أن حكم العقل بوجوب شكر المنعم يكون بالنظر إلى بعض المقدمات
الأخرى وليس بالضرورة المباشرة من دون اعمال النظر والتفكر ؟
س4:هل العقل كاشف أحيانا وحاكم أحيانا أخرى ، أم هو كاشف فقط ، وما معنى كونه حاكما؟
س5:هل التحسين والتقبيح العقليين اعتباريان فلا واقع لهما غير تطابق آراء العقلاء فقط ولا شيء غير ذلك ، وهل مثل هذا القول يعد خلطا من قبل البعض بين ما يسمى ببناء العقلاء والذي هو بدوره يعتبر أمرا اعتباريا
ويتمثل بتطابق آراء العقلاء والذي لا حجية له إلا بعد ثبات إقرار المعصوم له؟
س6:هل لما يسمى بالحسن والقبح العقليين واقع أو حقيقة وراء تطابق آراء العقلاء لا يتأثر ذلك الواقع بوجود العقلاء أو الإنسان خارجا أو عدم وجودهم ، إلا أن الحسن والقبح ليس أمرا زائدا على الشيء وعارضا عليه كالبياض والسواد بل هو حقيقة واقعية منتزعة من الشيء من قبيل المتضايفين كالأبوة والبنوة والفوقانية والتحتانية وما أشبه أو على الأقل هو تلك الملائمة والمنافرة في الأفعال الاختيارية للفطرة السليمة؟
س7:هل يصح ادراج الحسن والقبح العقليين تحت قضايا المشهورات بالمعنى الأخص أو التي تسمى بالمشهورات الصرفه وتحت ما يسمى بالتأديبات الصلاحية في المنطق ، وإذا لم يصح ذلك فتحت أي من القضايا تدرج؟
س8:هل للحسن والقبح العقليين ثمرة في علم الأصول حيث إنا نرى أن البعض قد أهمله من علم الأصول ، فهلا وتفضلتم علينا بذكر بعض الثمرات حتى تعم الفائدة؟
س9:هل صحيح أن سبب الخلط كان نتيجة تسرب آراء الأشعرية إلى الفلاسفة والمناطقة كابن سينا ومن ثم استمرت الشبهة إلى بعض علماء الأصول من المتأخرين حتى كاد البعض أو قد فعل وألغاها من علم الأصول وجعلها حكرا على علم الكلام؟
نسألكم الدعاء كما ندعو الله أن يوفقكم لمراضيه ويجنبكم معاصيه وأن يحشركم مع محمد وآله الطيبين الطاهرين بجاه محمد وآله.
باسمه تقدست أسماؤه. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ج1: كل ما حكم به الشرع يحكم به العقل عينا إذا أدرك ملاكه، أما إذا لم يدركه كأن كان الملاك غيبيا فلا قدرة للعقل على الحكم به مستقلا وبالخصوص، وإنما يحكم به لعموم إدراكه أن الشارع حكيم، فوإن غاب عنه ملاك هذا الحكم الخاص في نفسه فإنه يحكم به لثبوت ملاك الحكمة في أوامر الشرع.
وكل ما حكم به العقل - بمعنى اجتماع العقلاء عليه - يحكم به الشرع بشرط أن يكون ضروريا والاجتماع عليه قطعي يقيني لا ظني أو احتمالي، كوجوب طاعة المولى وحرمة الظلم أو قبح العقاب بلا بيان وأمثالها. والعقل في هذه إذا حكم فإنه يحكم بالعموم لا بالخصوص، فإذا حكم مثلا بالحُسن فإن حكمه يعمّ الوجوب والاستحباب، وإذا حكم بالقبح فإن حكمه يعمّ الحرمة والكراهة، وإذا حكم بالامتثال فإن حكمه يعمّ المولوي والإرشادي، وهكذا فلا سبيل له إلى تشخيص دقائق التكاليف وإنما يكون حكمه عاما ويبقى للشرع التفصيل. أما ما كان ضروريا أو بدهيا فما يحكم به العقل يحكم به الشرع بلا إشكال.
ج2: الحُسن أعمّ من الوجوب فقد يشمل الرجحان والأولوية والأفضلية مضافا إلى الوجوب الحتمي.
ج3: حكم العقل بوجوب شكر المنعم ضروري بلا مقدّمة، والكاشف عن ذلك عكسه، فإذا عُرض على العقل فرد أُنعم عليه فلم يشكر عمدا لذمّه، والذم دلالة على التقصير عن أداء واجب، فيثبت المطلوب.
ج4: نعم فهما - أي الكشف والحكم - نسبيان معنىً ليس إلا، فالأول مرجعه العقل النظري، والثاني مرجعه العقل العملي، أي في مقام العمل والامتثال للتكليف، وبهذا مُيّز بينهما.
ج5: إنّا نرى أن الحسن والقبح بذاتهما واقعيان في نفس الفعل المتحقق خارجا بمناسباته، أما التحسين والتقبيح العقليين فهما اعتباريّان، ووظيفة العقل هي في إدراكهما بالقوة المودعة فيه من الله سبحانه، ومن ذلك بناء العقلاء، فهو إنما يكشف عن الحسن أو القبح الواقعيين أو الحقيقيين.
ج6: تبيّن لك من جواب سابقه، فهما حقيقيان بذاتهما أما التحسين والتقبيح فلا حقيقة لهما بل هما اعتباريان ولذا ننعتهما بالعقليين، واللبس الذي وقع فيه بعضهم هو في نسبة الحسن والقبح الذاتيين إلى العقل كما في قول: ”الحسن والقبح العقليان لهما واقع وحقيقة وراء تطابق آراء العقلاء..“ فالصواب هو عدم نسبتهما إلى العقل، فإذا حذفت ”العقليان“ كانت العبارة صحيحة، أما إذا أضفتها كانت العبارة مغلوطة، فالصحيح أن لا نقول: ”الحسن والقبح العقليين“ بل نقول: ”التحسين والتقبيح العقليين“ لما مرّ عليك من الفرق بينهما. والحسن والقبح بما هما هما حقيقيان واقعيان في الفعل على أي نحو كان، وليسا من قبيل المتضايفين بل من قبيل الطبيعة الضدية، لذا يكون الكاشف عن إحداهما عكسه في مقام الفرض والاحتمال. وعليه تعرف أن الحسن والقبح الذاتيين لهما واقع وراء تطابق آراء العقلاء ولا يتأثر هذا الواقع بآرائهم، سواء التفتوا إليهما أم لم يلتفتوا، أما التحسين والتقبيح العقليان فلا واقع لهما بل هما اعتباريان.
ج7: التحسين والتقبيح العقليان، يصح إدراجهما تحت المشهورات الصرفة والتأديبات الصلاحية منطقيا لأنهما لا واقع لهما إلا بناء العقلاء وشيوع ذلك البناء بينهم، فيمتدحون فاعل الحسن ويذمون فاعل القبيح، أما الحسن والقبح الذاتيين فلا، إذ هما واقعيان ولو غفل عن ملاكهما العقلاء، كما مرّ عليك.
ج8: نعم للتحسين والتقبيح العقليين ثمرات في علم الأصول، منها ثبوت التخيير إذا دار الأمر بين المحذورين المتساويين مع فقدان الدليل الشرعي على تعيين أحدهما بخصوصه، وفقدان الدليل على التخيير، فالعقل يحكم حينها بحسن التخيير ويقبّح التوقف، فيثبت التخيير. ومنها ثبوت أصل الإباحة في الشبهة التحريمية مع فقدان الدليل الشرعي أو تعارضه أو قصوره عن الحجية سندا أو دلالة، وكذا ثبوت أصل البراءة في الشبهة الوجوبية، ذلك لأن العقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان. ومنها ثبوت تكليف الكافر القاصر في ما يستقل به العقل كنبذ الظلم وأداء الأمانة والتزام الصدق، وكذا ثبوت تكليف أهل الفترة في ما تبقى من أحكام الشرائع لحكم العقل بحسن الاستصحاب وقبح الترك. إلى غيرها من الموارد.
ج9: لا نرى ذلك، وإنما يمتنع الأصوليون عن تطبيق التحسين والتقبيح العقليين في استكشاف ملاكات الأحكام وسبرها وتقسيمها للاستنباط منها على وفقها، وهو ما يفعله بعض المخالفين من باب القياس الظني والاستحسان والمصالح المرسلة ونحظره نحن لأن العقل غير محيط بمصالح الأحكام ومفاسدها دقيّا كما سبق بيانه ليحكم بحسن هذا وقبح ذاك، أما إذا أدرك العقل مصلحة أو مفسدة إدراكا نوعيا يجتمع عليه العقلاء وكان الحكم عاما فإنّا لا نحظره. فالقاعدة إذن ليست بغائبة عن علم الأصول وإنما يجري تطبيقها في مواردها الصحيحة المقرّرة.
وفقكم الله للاستزادة في العلوم الدينية. والسلام. 28 من ربيع الآخر لسنة 1428 من الهجرة النبوية الشريفة.