السلام عليكم ورحمة الله وبركاته رغبنا بسؤالكم عن بعض ما ذكره أحد الذين قِيل بعلمهم (السيد علي أبو الحسن) من أن الروايات القائلة بأن قوله عز وجل "ووجدك ضالا فهدى" بمعنى أن القوم ضالون و هداهم الله برسول الله. هي كلها روايات ضعيفة حسب الصناعة وأن المقبول لديه كونه صلى الله عليه وآله كان "ضالاً بمعنى فاقداً للهدى، والهداية أتته بمعنى إعطاء الهدى، بلحاظ المعرفة الخاصة التي اعطيها النبي صلى الله عليه وآله في الوحي. فلا إشكال في ذلك ما دام لم نلتزم بشيء من الانحراف من سبل النبي صلى الله عليه وآله والعياذ بالله" وهذا نص كلامه في الخلاصة 40:45 من المقطع المنشور حديثاً:
https://youtu.be/FdCdJn5TaQU?si=f8eDAbyN3rmYOtqYf
وكان كذلك قد استدل بالآيات التالية ظناً منه أنه يحسن الإستدلال: ١- وَوَجَدَكَ ضَآلّٗا فَهَدَىٰ ٢- وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٣- نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ أَحۡسَنَ ٱلۡقَصَصِ بِمَآ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلۡغَٰفِلِينَ فنرجوا من سماحتكم بياناً شافيا في الرد كما اعتدنا منكم، وكذلك فما حكمه هذا القائل؟ أتخالف هذه المقولة ضروري المذهب؟ نشكركم شكرًا جزيلًا ، جعلكم الله من خير خدمة محمد وآله الطيبين الطاهرين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نبارك لكم حلول ذكرى ميلاد الإمام الرضا عليه السلام، وكل عام وأنتم بخير.
بمراجعة الشيخ،
ما من مستقيم الطريقة يعدل في مثل هذا عن أخبار أئمة الهدى صلوات الله عليهم - وإن كانت ضعافا - إلى ما عليه العامة العمياء من الأقوال، فإن القول الذي جاء به هذا المتحدث الغر إنما هو من قولهم، كما ذكره البغوي عن الحسن والضحاك وابن كيسان قالوا: «(وَوَجَدَكَ ضَالًّا) عن معالم النبوة وأحكام الشريعة غافلا عنها فهداك إليها، كما قال: (وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) وقال: (مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ)».
وإن الخبر الضعيف إذا كان موافقا للأصول؛ وأقرب إلى اعتقادنا في كمال سيد المرسلين وآله الطاهرين عليهم السلام؛ وأبعد من اعتقاد العامة العمياء في انتقاصه وانتقاصهم؛ وأحوط لدين المرء؛ فإنه يترقى إلى منزلة الصحيح المعتبر المأخوذ به، ولا سيما إذا لم يكن في رجال سنده مجروح أو متهم، وقد رواه من الأكابر من عُرف بالأستاذية لوجوه هذه الطائفة وزعمائها ممن لا يُظن بأمثالهم التهاون في الرواية عن المتهمين، كعلي بن الحسين السعدآبادي رحمه الله، وهو أستاذ أبي غالب الزراري الذي يقول عنه في رسالته: «حدثني مؤدبي أبو الحسن علي بن الحسين السعدآبادي». وأبو غالب هو المكاتَب من صاحب الأمر صلى الله عليه، وهو أستاذ المفيد، وهو «شيخ أصحابنا في عصره، وأستاذهم، وثقتهم، وفقيههم، ونقيبهم، وبقيتهم» كما يقول شيخ الطائفة. ومَن هذه منزلته إذا فخر بتأديب رجل له؛ علمتَ أن المؤدِّب فوق الوثاقة والتحرز في الرواية، وهو كذلك؛ فعلي بن الحسين السعدآبادي هو شيخ ثقة الإسلام الكليني والشيخ الأقدم ابن قولويه الذي «كل ما يوصف به الناس من جميل وثقة وفقه فهو فوقه» كما يقول النجاشي، وهو الذي نصّ في كامل زياراته أنه إنما يخرج أحاديثه عن ثقات أصحابنا المشهورين بالحديث والعلم، غير الشذاذ من الرجال.
ورواية هذا العلم الجليل في طي المتداول من تفسير القمي هكذا: «حدثنا علي بن الحسين، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن خالد بن يزيد، عن أبي الهيثم الواسطي، عن زرارة، عن أحدهما عليهما السلام في قول الله: (أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوىٰ) فآاوى إليه الناس. (وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدىٰ) أي هدى إليك أقواما لا يعرفونك حتى عرفوك. (وَوَجَدَكَ عٰائِلاً فَأَغْنىٰ) أي وجدك تعول أقواما فأغناهم بعلمك» (تفسير القمي ج2 ص427).
فإذا ضممنا إلى هذه روايات أخرى متعددة بطرق الصدوق والعياشي؛ كفتنا في الاعتماد عليها والاطمئنان بصدور مضمونها.
زد على ذلك قول علي بن إبراهيم القمي في تفسيره: «(وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ) قال: وجدك ضالا في قوم لا يعرفون فضل نبوتك فهداهم الله بك». وأقواله - رضوان الله عليه - بمثابة الروايات عند الأكابر، فهذه أقواله في الكافي الشريف في كتاب الديات لا تجد فقيها لم ينزلها منزلة الروايات الشريفة، لأنه لم يكن ليتكلم إلا بما تلقى من علوم من العترة الطاهرة عليهم السلام، كما لم يكن ليتكلم في كتاب الله برأيه وهواه. ولقد كان العلماء يطلقون على تفسيره قديما: تفسير الإمام الصادق عليه السلام.
هذا؛ وإن من بلادة هذا المتحدث أنه زعم تناسب قوله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) مع ما صرف إليه معنى قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ)، فزعم أن الأمر بالتحديث بالنعمة - أي الدين - دالٌّ على أنه صلى الله عليه وآله قد هُدي إليه بعدما كان ضالا عنه! غافلا عن أن صرفه إلى ما رُوي ونقول أنسب وأدل، ذلك لأن الأمر بتحديث النعمة - أي الدين - مقتضٍ لوجود مَن اهتدى إلى معرفته ويقبل منه الدين والشريعة حتى يحدثه، فتعيَّن أن يكون معنى (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ) هو ما نطقت به الأخبار من أنه سبحانه قد مَنَّ عليه بأن هدى الناس إلى معرفته وفضله. وهكذا تتناسب الآيات، فكأنه سبحانه يقول: ألم يجدك يتيما وحيدا فآوى إليك الناس؟ فمن آوى إليك منهم يتيما وحيدا فلا تقهره. وألم يجدك ضالا عند قومك فهداهم إلى معرفتك وفضلك؟ فمن جاءك منهم ضالا يطلب أن تحدثه بنعمة ربك وشرائع دينه فحدثه. وألم يجدك عائلا تعول أقواما فقيرا عند قومك فأغناك وجعل دعاءك مستجابا؟ فمن جاءك من قومك سائلا أن تغنيه بعلمك ودعائك وما أنعم الله عليك فلا تنهره. ولعل لهذه النكتة لم يقل سبحانه: (فآواك، فهداك، فأغناك) إذ المراد: (فآوى إليك، فهدى إليك، فأغناهم بك). ولعل من حكمة الله تعالى بقاء هذه الأفعال مجردة عن كاف الضمير ليتميز مَن يتبع أولياءه عليهم السلام في تعيين معانيها عمَّن يتكل على فهمه البليد ويتطابق مع أقوال مخالفيهم فيها!
ومن البلادة كذلك الاستدلال بقوله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ) فإنه ليس مسوقا إلا لنفي الشأن والإمكان الاستقلالي، نظير قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ). وهو أمرٌ مسلَّم، فإن نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله ما كان من شأنه ولا بإمكانه الاستقلالي أن يعرف الكتاب والإيمان، إنما هما من الله سبحانه. وهو أمر يعم جميع الخلق إذ يقول سبحانه حكاية لقول موسى عليه السلام: (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ). فأين هذا مما أراد المتحدث البليد؟!
وأما قوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) فما الغفلة هنا بجارية مجرى الضلال، وإنما هي جارية مجرى الغياب وعدم الشهود، إذ هذه القصص والأنباء إنما هي من الغيب، وما كان صلى الله عليه وآله حاضرا فيها، كما قال سبحانه بعدما أوحى إليه قصص آل عمران: (ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ). وأيًّا كان فإنه أيضا على تأكيد عدم الاستقلال المعرفي وأن ما لديه صلى الله عليه وآله إنما هو من ربه جل وعلا.
ثم إنه ينبغي الانتباه إلى أن لله سبحانه أن يخاطب رسله بما يشاء، فما هم إلا عباده، أما نحن فليس لنا إلا التأدب والاحتراز عن أي مقالة قد تنتقص أقدارهم صلوات الله عليهم.
وأما عن حكم هذا القائل وهل أنه خالف ضروري المذهب؛ فعندي أن الحكم بذلك مشكل، إلا أنه يؤدَّب إن حُجَّ وأصرَّ، لاتباعه غير سبيل المؤمنين ومضاهاته المخالفين في سوء الأدب تجاه سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الطاهرين. غير أن الحكم للحاكم، أعني للسيد المرجع دام ظله، لا لنا.
هذا ولقد استنَّت الفصال حتى القرعى! فاللازم أن يُكَفَّ هؤلاء الأغرار الصغار من طلبة العلم عن أن يتكلموا في ما لا يحسنون قبل النضج العلمي، ولا سيما إذا كان الكلام في مسائل حساسة خطيرة كهذه المسألة، مما يمس الذوات المقدسة.
وفقكم الله لمراضيه.
مكتب الشيخ الحبيب في أرض فدك الصغرى
10 ذو القعدة 1445 هجرية